رئيس التحرير
عصام كامل

المعطف الذي يلبسني

للوهلة الأولى، قد تبدو الأحداث مختلفة، وكذلك الشخصيات.. متفرقة لا ربط بينها، لكنك حين تغلق عينيك جيدا سترى الحقيقة جلية كما الشمس.

1

 كانت أحلامه كبيرة بحجم كوخ من البامبو في حضن نهر صغير، وأرجوحة من الحبال مشدودة بين شجرتين، ومنضدة من أخشاب الصنوبر العتيقة، وحوض زهور يجاوره حوض خضروات، وكلب وفي يحرس الكوخ حين يذهب هو للصيد، إلى أن يعود ليعطي امرأته السمكة الوحيدة التي علقت في شباكه، لتشويها بينما هو يعد لهما القهوة على نار الحطب، فيما تلهو ابنتهما الصغيرة على الأرجوحة بشعرها الذي يداعبه النسيم.
 


2

 كانت الثلوج تتساقط من السماء على رأسها كزخات الشهب، وهي تبحث عن زاوية تستتر بها في صحراء فقيرة بلا معالم. زاوية تحتوي انتفاضة جسدها المحموم العاري حتى من آخر ورقة توت، بينما عيناها تلمعان ببلورات من دموع تجمدت على حدود أهدابها.

معطفي وهموم العالم


نظرت هي نحو معطفي الثقيل باستعطاف، وقالت عينها اليسرى المرتجفة ما لم تقله الشفاه المتزرقة، فتوقفت أنا للحظة ثم مضيت في طريقي ورأسي يكنس شظايا الجماجم المتناثرة على الأرض..
وحين رأتني أقطع الطريق في غير اتجاهها، جلست على الأرض واضعة رأسها بين ركبيتها، وسيلت دمعا شق جدولا نبتت على جانبيه زهور رقيقة تحرسها أشواك مدببة، وسرعان ما استحالت هذه الأشوك أفاع تفح نيرانا سائلة صنعت نهرا ملتهبا من الذكريات..


في النهر رأيت وجوها مشوهة بلا ملامح.. الكثير من العيون والآذان والأنوف المتصارعة، كل منها يبحث عما يناسبها من الوجوه.. وجوه مخيفة لكنها هشة، سرعان ما ذابت في أتون صغير ينتهي إلى مجرى طويل يصب في قوالب صلبة تشكل وحوشا ضخمة لا تنتمي إلى هذا العالم.


أحد هذه الوحوش بدأ في مطاردتي، لكنني – ورغم جبني – لم أحاول الهرب أو حتى الدفاع عن نفسي، فتجمد الوحش عند حدود وجهي، وثبت ناظريه في عيني وسألني - دون أن يسأل - عن سري..
جلست والوحش نعب أكوابا من الذكريات الخشنة، وأخبرته بقصة الجدة التي رأتني سائرا بين الناس أحمل هموم العالم على كتفي، فأخذت هي تلك الهموم وغزلت لي منها معطفي هذا..


المعطف الذي يوما بعد يوم نجح في إزاحة جلدي الأصلي، وبات هو بشرتي السميكة ذات الحراشف المدببة.. دون أن أخبره، تيقن الوحش الطيب من أنني أشفقت على تلك المسكينة من أن تحمل معطفي الثقيل على جسدها الخالي من أي كتف، ربما سيقيها من قسوة الطبيعة للحظة، لكنها حتما ستتهاوى تحته أنقاضًا..


رحل الوحش تاركا قلبه في صدري، وقد عزم على افتراس الفتاة المرتجفة، لعله يخلصها من البؤس الجالس في عينيها.. أما أنا فما زلت أبحث عن جراح ينزع عني المعطف ويعيد لي جلدي الأصلي.
 


3

أمس، ركبت قطارا تطل كل نوافذه على غابة ساحرة، يقال إن من يشاهد أشجارها يطول عمره. النوافذ كانت متباينة الأحجام والأشكال، وحين جلست تصادف أن كانت نافذتي صغيرة ومع ذلك كانت تكفي لأن أرى المنظر جيدا، غير أن شيئا في نفسي دفعني إلى أن أبحث عن نافذة أكبر تمكنني من الرؤية بشكل أفضل، فرحت أتجول داخل العربات: «هذه نافذة أكبر، لكن ربما هناك نوافذ أكبر منها»..

هكذا كنت أحادث نفسي، متنقلا من مقعد لآخر بحثا عن النافذة الأكبر والأكمل على الإطلاق.. عربة بعد أخرى وجدتني في آخر القطار حيث نافذة متوسطة الحجم، فقررت أن أعود إلى المنتصف فهناك نوافذ أكبر من هذه، وحين وصلت أطلق القطار صافرة طويلة وسكن مكانه.. لقد انتهت الرحلة.

الجريدة الرسمية