رئيس التحرير
عصام كامل

د. ياسمينا شاهين تكتب: القانون بين العقل والقلب (2)

د. ياسمينا شاهين
د. ياسمينا شاهين

أول من يدفع الثمن من دمه ولحمه، هم أقرب..

هم أقرب الناس إليه، أهله وذووه !!

فهذه أم حرق الألم فؤادها.. وهذا أب انقطعت أسباب الحيل لديه.

وهذا أخ سقط صريعًا، وهذه زوجة تطلق، وهذا ابن يشرد، وهذا مجتمع يتوه، ويتفكك يومًا بعد يوم. 

لك أن تتخيل يا سيدي، موقف القاضي، فهو بشر مثلي ومثلك، سخَّره الله ليحكم بين الناس وكلمته سيف يمكن أن يقطع به يدًا أو رقبة ويمكن أن ينجي به بريئًا.

وبما أنه بشر، فبالطبع قد يخطئ وقد يصيب، وقد يتعامل بالقلب أو العقل، وقد يتم خداعه أو تتزين الحقائق أمامه، ولأنه يدرك كل ذلك ولأن الخطأ في الأحكام في منتهى الخطورة والمسئولية، ولأنه قد اختار بمحض إرادته أن يتولى هذا الأمر، فهو يفكر ألف مرة مادام يرى الله دومًا أمام عينيه، خوفًا منه ورحمة بمصائر الناس. 

 

الدوافع العقلية والنفسية والمرضية

وفي ظل سعيه الدائم لإعمال القانون وبنوده، فهو يسعى جاهدًا في إعمال فطنته لبحث الدوافع العقلية والنفسية والمرضية وراء الحادث، وله سلطة تقديرية لتخفيف العقوبة أو ربما إلغائها !! 

ولم يكن هذا محض صدفة أو دستور، بل يرجع الأمر إلى "شرع الله" الذي حرص على الأحذ بالأعذار والظروف التي أحاطت بالمتهم على سبيل الرأفة دون دون الإخلال بالعدالة والحفاظ على الحقوق. 

 

أبيض أو أسود

فلا يوجد أبيض أو أسود في المسائل القانونية بدليل وجود محاكم النقض والاستئناف والدستورية العليا، وخاصة أن مشرعي القانون قد يدرجون العديد من المصطلحات التي قد تحمل أكثر من معنى. 

 

الحد الأدنى والأقصى للعقوبة

ولكي يصلح القانون، لابد أن يفسر تفسيرًا يعطي للقاضي الحق لتطبيق الحد الأدنى والأقصى للعقوبة. 

ولولا هذا الشعور وهذه الفطنة والحكمة والفلسفة التي تساوي في قدرها قدر الأدلة والمستندات بل قد تغلبها في أوقات كثيرة، لاستطاع الجاني أن يصبح بريئًا ولحصل البريء على الإعدام !!

فلا يمكن أن تحكم مجموعة أوراق فقط على مصير ومستقبل إنسان !!

ولو كان هذا ممكنًا، لأصبحت الأحكام مميكنة وإلكترونية !! 

أتعرف عزيزي القارئ، علام أتحدث ؟ 

 

روح القانون

إني أتحدث عن "روح القانون".

وأتعجب كثيرا من البعض الذين يسفهون من هذه الكلمة  ويستهزئون بها ويسخرون من القضاة الذين ينظرون لبعض القضايا بالجانب الشعوري والفلسفي إلى جانب الوعي الحقيقي والعقلي. 

وكيف يحكم الرأى العام الدفة بمجرد الاطلاع على مجموعة أخبار، الله وحده من يعلم مدى صحتها أو دقتها، دون دراسة أبعاد القضية أو حتى ما يسمى بـ "أ. ب. قانون" على أقل تقدير ! 

فإن كنا سنحكم في القضايا بوجهات نظر كل فرد منا الشخصية، لما رسينا على حكم ولأصبحت الدنيا أشبه بالغابة.. فلا يمكن أن يتفق الكل على نفس الحكم.

 

نظرة ثاقبة

ولكن الحكمة تقتضي أن ننظر في الأمور نظرة ثاقبة، وأن نعمل العقل دون أن ننسى أننا بشر.

والبشر يشعر ويحس ويفهم ويتفهم ويخطئ ويغفل، ويصيب ويندم ويتوب ويعفو ويتسامح والعبرة بالنهايات وميزان الحسنات وعدم تكرار الأخطاء. 

وإن لم يستطع الإنسان العفو في مجمل حياته، لأصبح جمادًا أو ربما أسوأ بكثير.

فالله هو الغفور الرحيم، فكيف لبشر أن ينطق بعد هذه الجملة ؟! 

القانون دستور حياة، وعظمة القانون في كونه يرد الحقوق بأهدأ الطرق وأقلها أذى ودمار.

فلا يدهس أحلام البشر ولا يدمر ويشتت أسرًا.

به تستقيم الحياة وتهدأ النفوس. 

ونحن في النهاية بين خيارين: 

* إما أن نحترم قوانين الكون الذي نحيا فيه. 

* إما أن نحوله إلى غابة، يأكل فيها القوي الضعيف، ويدهس فيها الظالم المظلوم، وتكون السيادة فيها للمجرم بلا حساب، بلا دليل، بلا أمان، بلا إنسانية. 

وسيبقى القانون دوما بين ميزان العقل والقلب وصراع الواقع وتغليب الضمير.

الجريدة الرسمية
عاجل