رئيس التحرير
عصام كامل

خليك إيجابي ولا تبلغ عن السلبيات

دفعنى لكتابة هذا المقال وقائع كثيرة تتكرر يوميا أمامى فى المكان الذى أعيش فيه ويتشابه فيها السيناريو التالى: يأتى أفراد من الجهة المسئولة عن إزالة مخالفة ما بموجب بلاغ من شخص ما، ويقومون بإزالتها بكل عنف وبلا شفقة ولا هوادة، فيهلل المتضررون فرحا فى المخالف الذى سبب لهم الأذى والضرر وأحال حياتهم إلى نكد، بعدما شاهدوا إن في دولتهم قانونا يجرى تطبيقه.

 

لكن هذا ما يحدث بعد ذلك: يذهب المخالف فورا إلى الجهة المعنية بالمخالفة ويدفع "فلوس"، ثم يعود حاصلا على التصالح على جريمته أو مخالفته أو ما يشبه صك البراءة والاستمرار بل والتمادى فى المخالفة بل يعيد الوضع إلى ماكان عليه قبل الإزالة، فيخرج لسانه لجيرانه المتضررين ويتحداهم زاعما ومدعيا بأنه “مسنود” أو "واصل"، وأن أحدا لايجرؤ على أن يعاقبه أو يؤذيه، بل ويهددهم ويتوعدهم، فيصابون بخيبة أمل بعدما راودتهم الفرحة بعودة دولة القانون، وعندما يذهبون لإبلاغ نفس الجهة المعنية بعودة المخالفة، يفاجأون بسلبية ورد فعل مخالف لما وجدوه في المرة الأولي.

 

 

فى كل دول العالم ينال المخالفون عقوبات مشددة فى حالة تكرار المخالفة مرة أخرى، لكن فى مصر الآن لا يحصل المخالفون والفوضويون على صكوك البراءة فقط من مخالفاتهم بـ "دفع فلوس"، بل على صك مشروعية تكرار مخالفتهم وإعادتها الى وضعها السابق قبل "الدفع" بكل أريحية و"تبجح"، وبكل أسف يحدث ذلك تحت رعاية وحماية نفس الجهة التى أجبرتهم على دفع الفلوس.

 

بعبارة أخرى يجرى تغييب القانون أو تجميده أو تحييده فى وجه المخالفين، وصار مباحا للفوضويين ارتكاب أى مخالفة والتمادى فيها والابقاء عليها طالما إنهم يدفعون، حتى أصبحنا نعيش مشهدا عبثيا كل يوم يعتمد الغرامات ولا يمنع تكرار المخالفات.

تكاتك وأشياء أخرى

 

سأكتفى بسرد 4 وقائع.. الأولى: أحد جيراننا قدم شكوي بحالة بناء مخالف في العمارة المجاورة.. جاء مسئولو الحي وتم هدم وإزالة المخالفات.. فرح المتضررون وشعروا أن بلدهم بها قانون وسلطة تتولي تنفيذه غير أن هذا الجار المخالف وبعد ساعات أعاد بناء ما تم هدمه ليخرج لهم لسانه ويتحداهم.

 

الواقعة الثانية: بين الحين والآخر يأتى مسئولو الحى فى مشهد هوليوودى أقرب لـ"الشو الاعلامى" فيصادرون عربة بائع فاكهة أو خضار أو كبدة مثلا وتسبب إشغالا للطريق، وبعد أن يفرح الناس بإجلاء البائع المخالف، ماهى إلا ساعات إلا ويتفاجأون به وقد عاد لمكانه مجددا آمنا مطمئنا ليشغل ويسد الطريق من جديد وكأن شيئا لم يحدث، ثم يشيع هذا البائع بأنه دفع بضعة آلاف من الجنيهات مقابل العودة، ويخرج لسانه متحديا الناس المتضررين والمتأذيين من وجوده المخالف، فيتكرر سيناريو احباطهم ولا يهنأوا بالفرحة سوى ساعات قليلة.

 

الواقعة الثالثة: على فترات متباعدة تصل لثلاثة شهور تأتى "لجان" لتصادر صفائح الزبالة المتحركة المسماة بـ "التكاتك" التى تحولت لورم سرطانى فى جسد المكان الذى أعيش فيه، وتنقل عدسات موبايلات السكان صور عشرات من تلك التكاتك وهى متراصة على سيارات الإنقاذ فى مشهد يوحى لك بأنها فى طريقها الى الإعدام، ولكن ما هى إلا ساعات حتى نجدها قد عادت فى أمان كامل بعد أن دفع أصحابها بضعة آلاف من الجنيهات كغرامة أو تصالح وليعود سائقوها البلطجية والمجرمين لممارسة جرائمهم اليومية فى التحرش والخطف وتجارة المخدرات وكأن شيئا لم يكن، مع أن تلك اللجان لو امتلكت إرادة اجتثاث هذا الوباء جذريا فى عدة ساعات لفعلت وأراحت الناس من مصائبه الكثيرة.

الغرامات والمخالفات

 

الواقعة الرابعة: هناك قرار أصدره رئيس الوزراء بمنع الشيشة فى المقاهى، ورفعت وزارة التنمية المحلية شعار "خليك إيجابي وبلغ عن القهوة اللي تقدم شيشة"، لكن الشيشة تقدم بشكل علنى فى 98% من مقاهى مصر، ومايحدث إن مسئولى الأحياء يشنون حملات عليها بين الحين والآخر لتحصيل غرامة وهى حوالى 4 آلاف جنيه، لكن بكل أسف أصبحت أشبه بإتاوة وليس إنفاذ قرار هدفه حماية المجتمع من وباء كورونا، وكلما تحدثت مع صاحب مقهى يشتكى لك من إن البلدية "تكبس" عليه كل "كام يوم" وتقوم بتحصيل بضعة آلاف، وكانت نتيجة منطق الجباية من المقاهى هذا أن "اشتعلت و.. ولعت" أسعار المشروبات بها، بل وتزداد في كل مرة تجلس فيها علي المقهى مثل أسعار كل شيىء فى مصر، وصار المواطن هو الذى يسدد فاتورة الغرامة وليس صاحب المقهى، وأصبح أقل مبلغ يمكن أن تدفعه عند الجلوس مع صديق واحد على مقهى الآن 100 جنيه بعدما كنت تدفع حتى وقت قريب 20 جنيها لنفس المشروبات.

 

 وهكذا فقد قطاع كبير من المصريين إيمانه بشعار "خليك إيجابى وبلغ عن السلبيات" أولا: لأن سيناريو الحالات الأربعة التى ذكرتها أعلاه تتكرر وتتشابه يوميا، وثانيا: لأن هدف الإبلاغ يبدو فى ظاهره القضاء على السلبيات، لكنه فى باطنه تحول الي "سبوبة" ومنفعة مادية لخزينة الجهة المعنية بإزالة تلك السلبيات، وعندما ينشر أحد المتفائلين صورة إحدى هذه الحملات ضد التكاتك أو المقاهى أو الباعة الذين يسببون اشغالات الطريق أو مخالفات البناء أو غيرها، تجد تعليقات تكشف عن أن الناس لم تعد تفرح بها ولا تهتم لقناعتهم بأنها لم تعد سوى "مراهم" أو"مسكنات" لاتقضى على تلك المشكلات المزمنة جذريا.

 

والنتيجة أن معظم شوارع وأرصفة مصر أصبحت أشبه بـ"سويقة" احتلها الباعة الجائلون ولا مكان فيها لقدم، واستفحل خطر مشهد التكاتك - 4 مليون - التى تمرح فى الشوارع كالصراصير بحيث يبدو القضاء عليها مستحيلا، واستمر البناء المخالف تحت شعار "التصالح" ولاتزال الشيشة فى كل المقاهى.

 

 باختصار لن تقوم للأمن المجتمعى فى مصر قائمة طالما استمرت حكومة د. مدبولى فى منهجها العجيب الذى يقنن الفوضى والإشغالات والمخالفات وهو "مقايضة الفلوس بالمخالفات"، وسيستمر تغييب القانون طالما واصلت أجهزة المحليات شعارها الغريب " أبجنى وخالف بما يحلو لك.. فلن تجدنى". 

https://www.facebook.com/emad.sobhy.161/

الجريدة الرسمية