رئيس التحرير
عصام كامل

عن فوضى "الإشغالات" بشوارع مصر


تبدو شوارع مصر الآن – ولا أستثنى منها منطقة راقية كانت أو شعبية- وكأنها "سويقة كبرى"، وكأن هذا البلد قد تحول بأكمله إلى سوق خضار وفاكهة أو مولد لأحد الأولياء الصالحين في حي شعبي، إشغالات وصخب وضجيج وضوضاء وزحام مروري خانق ليلا ونهارا لا مثيل له في أي دولة بالعالم، لا مكان تسير فيه بقدميك أو بسيارتك.


إذا تحدثت في هاتفك المحمول مجبرا، لن تسمع صوت من يحدثك وكأنك في صالة أفراح شعبية بسبب صوت "دى جيهات" الأغانى السوقية التي تنطلق من "التكاتك"، أو ما أسميه "براميل الزبالة المتحركة" والتي تموج وتمرح وتتمختر في كل الشوارع كالصراصير يمينا ويسارا وتخنق كل النواصى، وبسبب أصوات موتورات الموتوسيكلات المزعجة وميكروفونات الباعة الجائلين، ونداءات نادلى المقاهى، وخناقات سائقى السيارات واستجداءات المتسولين ونباح الكلاب الضالة.

أما إذا أردت أن تسير على قدميك في أي شارع فتحتاج إلى أن تكون "حاويا أو أراجوزا أو بهلوانا" ذا لياقة بدنية عالية، لكى تقفز من هنا لتفادى هذا التوكتوك الذي سيدوس على قدميك، وتجرى من هناك لتفادى اصطدام الموتوسيكل أو التريسيكل فجأة بعظامك فتحتاج لتركيب شرائح أو مسامير.

الأرصفة صارت محتلة من المحال في غيبة المحليات، بحيث اختنقت الشوارع ولم يعد بها مكان لقدم، المقاهى انتشرت وصار عددها كالأرز وتكاثرت وتمددت كراسيها إلى منتصف الشوارع لتغلقها أمام المارة والسيارات.

أكاد أجزم أن سيناريو وقوع المخالفات ومن ثم نشوء الفوضى واحد ويتكرر كل يوم في معظم أحيائنا وشوارعنا: باعة متجولون يقفون كبالونة اختبار بعرباتهم في ميادين أو مناطق حيوية يعرقلون المرور، وعندما يلحظون تقاعس الأجهزة يزداد طمعهم في المكان وكأنهم امتلكوه، ثم بعد أيام يتمترسون فيه ويتخذون منه مقرا ثابتا لهم، وبعد أيام أخرى يشيدون كشكا أو شادرا خشبيا لتقنين وجودهم غير الشرعى، حتى يصبح من الصعب على أجهزة الدولة التعامل مع المخالفة بالإزالة. 

الطريف أنه تمر شهور وشهور بين الوقوف الأول للبائع حتى بنائه الكشك أو الشادر، ومع ذلك تتعامى وتتغافل وتتقاعس أجهزة المحليات خلالها عن رؤية المخالفة الصريحة الواضحة في الميادين، الشيء نفسه يحدث مع عمارات وأبراج تعلم أجهزة المحليات أن أصحابها يشرعون في بناء أدوار عديدة مخالفة ومع ذلك يتعامون ويتغافلون عن "درء" و"وأد" المخالفة في مهدها قبل وقوعها.. أمثال هؤلاء المسئولين المتقاعسين المتغافلين يستحقون إحالتهم للمحاكمة بتهمة الإهمال في أداء مهام وظيفتهم.

في كل دول العالم تصدر القوانين لمحاربة الفوضى إلا في مصر تصدر القوانين لتقنين وتوفيق أوضاع "السادة الفوضويين والبلطجية" بحيث يصبح لدينا "فوضوية وبلطجية برخصة" تحت شعار "خليهم يسترزقوا وياكلوا عيش"، وليذهب كل من يريد العيش في دولة قانون وانضباط ونظام كباقى دول العالم المتحضر إلى الجحيم.

يحدث هذا مع بلطجية الأرصفة الذين يفرضون إتاوات على كل من يركن سيارته في كل شبر من شوارعك يا مصر، فبدلا من تجريم الوقوف على الأرصفة ومنع ابتزاز الناس واجتثاث هؤلاء من الشوارع واراحة الناس منهم أو وضع ماكينات لتذهب حصيلة أموال "ركنة السيارات" لخزانة الدولة كما في أوروبا، للاسف يعتزم البرلمان إصدار مشروع قانون لتقنين أوضاعهم، وحدث أيضا مع مخالفى البناء الذين تتصالح معهم الدولة بقانون تحت شعار "خالف وادفع".

لم نسمع يوما أن مصر تعانى فراغا تشريعيا، مصر أكثر دولة في العالم بها قوانين لكل شيء بما فيها القوانين المجتمعية، ولكن ما قيمتها إذا كانت الأجهزة المعنية تتقاعس عن تنفيذها لتفتح شهية المواطنين لارتكاب كل أنواع الموبقات وهم في مأمن من العقاب.

هذه المظاهر الفوضوية التي لا يبدو ثمة أمل في إنهائها تخلق من واحد مثلى يؤمن بالانضباط، مواطنا ساخطا ناقمنا بل ومقتنعا بأن تلك الفوضى مهملة عمدا مع سبق الإصرار وليست نتاج حالة عجز من الدولة.

والحقيقة إن كثيرا من المصريين غير المنضبطين يتحملون بسلوكياتهم جزء من حالة الفوضى المجتمعية التي نعيشها الآن، وهم مسئولون أيضا عن حرق الدم والتوتر والعصبية التي يتعرض لها كل مواطن مصرى منضبط ويحب العيش في دولة قانون، من ذلك مثلا أشخاص يقفون بسياراتهم في منتصف الطريق ويغلقونه وإذا تحدثت معهم يشيحون لك بيدهم ويقولون لك بمنتهى البجاحة "خليك في حالك يا...."

ينحرق دمك مع سائقى التوكتوك إذا أجبرتك الظروف على الركوب معهم في استجدائهم لكى يغلقوا ميكروفونهم المتنقل وأغانيهم السوقية، حرق دم مع السايس الذي يبلطج عليك ويجبرك على دفع 10 جنيهات لمجرد وقوفك دقيقتين بجوار الرصيف إذا كنت صاحب سيارة، حرق دم مع أصحاب السيارات الذين يركنون سياراتهم عمودى على الرصيف بحيث يضيق الشارع ولا يتسع لمرور سيارتين في وقت واحد، وإذا التزمت في بيتك ستتعرض لحرق الدم من إزعاج عمال البناء في الفجر ومن شباب يلعبون الكرة في الشارع بعد منتصف الليل لأنك لاتجد آلية قانونية رسمية لشكواهم ولأن الدولة غائبة.

يفترض أننا نعيش الآن في دولة متماسكة الأركان ولسنا في شبه دولة بحيث أصبحت هذه المظاهر غير مقبولة مثلما كانت بعد يناير 2011، وبالتالى فإن استمرار الفوضى المجتمعية وفوضى المرور والشوارع والمقاهى والإشغالات بهذا الشكل لا يرضى كل المخلصين لهذا البلد، فالأمن السياسي لا ينفصل عن الأمن المجتمعى.

وأظن أن هذه المظاهر السلبية التي ذكرتها تحتاج لـ "اجتثاثها" من جذورها والقضاء عليها بدلا من منطق "الطبطبة" بعد أن أثبتت أنصاف الحلول فشلها، ولن تقوم لهيبة القانون قائمة طالما أن سياسة تنحية القانون وإلقاءه في سلة المهملات أصبحت منهجا في التعامل مع المخالفين، كل المخالفين.
الجريدة الرسمية