رئيس التحرير
عصام كامل

رواية الشاهد الوحيد على كواليس يوم تنحي جمال عبد الناصر.. الزعيم يتوقع محاكمة شعبية.. خسائر النكسة وضعته في ورطة.. واعترض على جملة في خطاب 9 يونيو1967

هيكل وجمال عبدالناصر
هيكل وجمال عبدالناصر
لا تحتاج الليالي المصيرية لكثيرًا من الشهود، الأحداث تفرض ظروفها على الجميع ويصبح على كل شخص التواجد في موقعه، لكن في حالة هيكل فإن موقعه يحتم عليه أن يكون شاهد، بل وفي ليلة 9 يونيو كان هو الشاهد الوحيد.


نعم فإن الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل كان هو الشاهد الوحيد على هذا اليوم من بدايته لنهايته، هو من كتب خطاب التنحي، تحدث مع جمال عبد الناصر، عرف أفكاره وفيما يفكر فيه بل وكان هو من اقترح اسم رئيس الجمهورية الجديد.

في كتابه "الانفجار" يكشف هيكل الرواية كاملة، يقول في البداية "الليلة ورغم أنها كانت 24 ساعة، لكن أظن أن ما جرى فيها كافيًا ليملأ مجلدات بكاملها، أتعجب كيف مرت تلك الليلة؟ كيف طلع صباح هذا اليوم؟ وأنا تصادف أو بالظروف كنت تقريبا في تلك اللحظة في بؤرة ما كان يجري في بؤرة الحوادث".

ويكمل "هيكل" شهادته "في تلك اللحظات كانت الصحف تتحدث عن حجم الخسائر التي لحقت بالجيش المصري، والمعارك التي مازالت تدار علي الجبهة، والإذاعة تعلن عدد الضحايا وارقام الطائرات التي توالي سقوطها، والرئيس الراحل عبدالناصر يتابع عن كثب تطورات الأحداث، ومن هنا شعر بحجم الكارثة والموقف المؤسف الموضوع فيه الجيش المصري، ومع ذلك حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعندما أدرك أن الموقف خارج السيطرة، اتصل بوزير الخارجية محمود رياض، ليطلب من السفير القوني سفير مصر في الأمم المتحدة نيويورك، إبلاغ موافقة مصر على وقف إطلاق النار.



ويكمل " خلال جلسة منفردة جمعت عبدالناصر مع عبدالحكيم عامر، اقترح الزعيم تقديم استقالته للشعب، وأن يكون شمس بدران رئيسًا مؤقتًا لمصر، ووافق عامر، بعدها اتصل ناصر بهيكل في مكتبه بصحيفة الأهرام، ووصف هيكل تلك المكالمة في كتابه "الانفجار"، قائلًا "وبدا صوته لأول وهلة على التليفون مثقلًا بهموم الدنيا كلها، وقد سألني ما الذي أقترح عمله، وكان رأيي أنه لم يبق أمامه غير الاستقالة وكان رده بالحرف: غريبة هذا ما فكرت فيه تمامًا، وكان ردي أنه ليس هناك خيار آخر. وكان تعليقه بالموافقة".
وخلال المكالمة الهاتفية، طلب عبدالناصر من "هيكل" كتابة خطاب التنحي، واستمر هيكل يكتب مسودات الخطاب طوال الليل، حتي استقر علي الشكل النهائي، والذي وصفه في كتابه قائلا: "أرهقتني سطوره أكثر من أي شيء آخر كتبته من قبل، وظننت أنني حفظت العبارات والألفاظ من كثرة ما راجعتها وغيرت فيها وبدلت".

 
وفي الصباح الباكر توجه لمنزل الرئيس الراحل، ووصف هيكل تعبيرات وجه عبدالناصر في ذلك الوقت: "أضاف إلى عمره 10 سنوات على الأقل، كان مرهقًا بشكل يصعب وصفه، وكانت في عينيه سحابة حزن لم أرها من قبل".

دار حوار بين هيكل وعبد الناصر عن تفاصيل الخطاب، واعترض عبدالناصر على نص عبارة في الخطاب، كانت هي أهم العبارات فيه وربما هي أشهر عبارة في الخطاب بعد ذلك، وهي عبارة كانت صيغتها الأولى تقول: “وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي من الأزمة، فإنني على استعداد لتحمل نصيبي من المسؤولية”، واعترض ناصر مؤكدًا أنه يتحمل المسؤولية كلها.

وهنا يعلق هيكل: "ولم أختلف معه فيما قال، وأعدت صياغة العبارة على الفور فجعلتها كالآتي: “إنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها”، وكان تعليق ناصر على هذه الصياغة الجديدة: “تلك هي الحقيقة وهذا أدق وأكرم".



وعقب الموافقة النهائية علي الخطاب، توجه هيكل بالخطاب إلي مكتب سامي شرف مدير مكتب عبدالناصر؛ ليعاد كتابة الخطاب على الآلة الكاتبة، وبعد كتابته عاد هيكل مرة آخر لعبدالناصر، ودار بينهما حوار طويل، ذكر هيكل تفاصيله في كتابه، في تفاصيله" قال ناصر: لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم، لهم الحق.

ورد هيكل: ليس هناك ضرورة لأن تدفع مشاعرك إلى هذه الدرجة، فما حدث لك شيء حدث من قبل كثيرًا في التاريخ، واعتقادي أن البلد واجه نكسة، ولكنه قادر على القيام منها بقواه الذاتية.

فأكمل ناصر: إنني أتصور أن الناس بعد مفاجأة استقالتي، سيطلبون معرفة الحقيقة فيما حدث، وهو حقهم، ولست أعرف السبيل إلى تحقيق هذا الطلب، فهو ضروري لمستقبل العمل، ولكني أخشى أن يتصور أحد أنني بأي شيء أقوله أحاول إشراك غيري في المسؤولية، والله يعلم أنني لا أفكر في أي شيء من ذلك، فأنا نازل عند حكمة الله في قضائه ولكن الحقيقة يجب أن تكون واضحة للناس.".

وفي مساء هذا اليوم توجه الرئيس الراحل ليلقي خطابه الشهير الذي يحمل كلمات "وأقول لكم أنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قرارًا أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر.

وقوبل الخطاب ببعض لحظات الصمت المكمونة بالحزن المكتوم، قبل أن يسبقها عاصفة صراخ وهتافات تقول: "ناصر.. ناصر.. كلنا عايزين ناصر".
الجريدة الرسمية