رئيس التحرير
عصام كامل

سلام يا صاحبي

كنا سبعة طلاب حصلوا على درجات تؤهلهم لدخول الثانوية العامة، وهو الرقم الأكبر في تاريخ قريتنا، التي كانت تمد التعليم الثانوي بطالبين أو ثلاثة فقط كل عام، إلى أن تغير الوضع في السنوات التالية وراح العدد يتزايد سنة بعد أخرى.


ومن بين الطلاب السبعة كان محمد خميس الذي لم أكن أعرفه قبلها سوى باسم أبوغريب، فمن المعتاد في قريتنا الصغيرة أن يكون لك اسما رسميا في شهادة الميلاد وآخر للشهرة تعرف بيه بين الناس، وهو ما سبب خلطا كبيرا لسنوات طوال، فقد تسأل الجار عن جاره ولا يعرفه، وذلك لأنه يعرف اسم الشهرة ويجهل الاسم الرسمي في غالب الأمر.
حواديت الميكروباص
أنعم الله على محمد (أبوغريب) ببنية قوية وبشرة سمراء مميزة ووجه هو الأكثر سماحة بيننا جميعا، غير أن الهبة الأكبر التي منحها الله لصديقي تمثلت في مهارته التي لم تكن تبارى في كرة القدم، لهذا كان واحدا من أشهر اللاعبين في فريق مركز الشباب القرية، لكنه مع ذلك لم يكن كثير الظهور، فقد يلعب لفترة ويغيب فترات..

في المدرسة الثانوية توطدت علاقتي بـ(أبوغريب) حتى صرنا أقرب صديقين، رغم قوة علاقتي برفاقنا الآخرين، فقد كنت أقضي معظم وقتي في بيته، بينما اعتادت والدته - رحمة الله عليها - أن تحضر لنا أطيب الطعام، وكذلك أمدتنا شقيقته بما كنا نحتاجه من شاي وقهوة، فلم يكن وقتئذ صوتا يعلو فوق صوت الثانوية العامة أملا في النجاح ثم الالتحاق بكلية والحصول على الشهادة الكبيرة..

مرت الشهور وأنهينا الثانوية العامة بنجاح، وألتحقت أنا بكلية السياحة والفنادق بينما ذهب أبوغريب إلى كلية التجارة، ولم يجد أحدنا نفسه في أي من الكليتين، فحولنا في السنة التالية إلى كلية الآداب بجامعة حلوان قسم اللغة الإنجليزية..
أربع سنوات لم نفترق فيها، شهدت الكثير من الضحك والدموع..

فكم ضحكنا على طريقة نطق (الدكاترة) لكلمات وجمل اللغة الإنجليزية في الكلية، بينما اعتدنا نحن طريقة نطق الإنجليزية عل الطريقة المصرية من كل المدرسين الذين درسوا لنا هذه اللغة في الإعدادية ثم الثانوية وأغلبهم لم يكن متخصصا فيها، لكن النقص في هيئة التدريس كان يدفع الإدارة لأن توكل المهمة لأي مدرس إلى أن يأتي مدرس حاصل على شهادة جامعية في اللغة الإنجليزية.. وهو الأمر الذي لم يكن يحدث في الغالب..

أما الدموع فما أكثرها حين كنا نسهر أياما لترجمة مقدمة فصل واحد من كتاب به أكثر من 20 فصلا في مادة واحدة من بين نحو 12 مادة!!
فوضى الفراغ
لم تكن الدراسة وحدها القاسم المشترك بيني وبين أبوغريب، فكنا سويا من عشاق موسيقى الراي الجزائرية وكذلك أغاني محمد منير وماجدة الرومي.
في تلك الفترة أيضا لم يكن أيا منا يذهب في مشوار وحده، فأي مناسبة لأحدنا هي تخص الآخر بالضرورة، ما وطدت تلك الصداقة التي كانت تشبه الكورس المكثف، فأصبحت السنوات السبع في الثانوية والكلية تعادل سبعين عاما مما تعدون.

كثير من المواقف جمعتي وصديقي الأقرب إلى قلبي، بعضها لا يمكن أن يروى، لما فيه من مصائب ومشاكل كنا فيها طرفا واحدا لا طرفين، وربما كان ذلك بمثابة بهارات طبخة هذه الصداقة التي نضجت على نار هادئة، فباتت أخوة.

قبل سنوات قليلة أخبرني محمد (أبوغريب) بأنه مصاب بفشل كلوي، قالها وهو يبكي، فقد أنعم الله عليه ببنية قوية وصحة وافرة، ولم يكن يتخيل أن يمر بهذه التجربة يوما، واحتراما لرغبته لم أتحدث مع أي من أصدقائنا المشتركين في هذا الأمر فقد كانت نفسه عزيزة عليه كما يقال..

مرت الأيام واشتد المرض بصديقي، وبالطبع انتشر الخبر بين الناس، وهو الأمر الذي كان وجعه أشد على صديقي من وجع المرض نفسه.. في آخر لقاء لنا، جلست معه لفترة وجيزة، لم يتحدث أي منا كثيرا، فقد كان الصمت أبلغ حوار ممكن بين صديقين يعرف كل منهما الآخر أكثر مما يعرف نفسه..

لم أطل البقاء، فودعته وغادرت القرية عائدا إلى بيتي، حيث قضيت واحدة من أسوأ الليالي في حياتي، إذا لازالت نظراته محفورة في ذاكرتي كأنني أراه..
قلت الاتصالات بيننا، منذ آخر اتصال بكينا فيه سويا أكثر مما تحدثنا، إذ كان المرض يشتد وكذلك الوجع النفسي الذي كان يفوق وجع البدن بكثير وكثير، وانقطع التواصل بيننا لفترة، كان مصدر معلوماتي عن أبوغريب وأخباره هو ما يحكيه لي أشقائي بالقرية نفسها، ولم تكن سوى كلمات قليلة، فقد قل ظهور محمد ومشاركته في مختلف المناسبات الاجتماعية..
كيوم ولدتني أمي
ولعل أبرز مشهد جمعني بصديقي، حين كان إلى جواري في جنازة أمي - رحمة الله عليها - إذ خرجت من قبرها بعد أن وارينا جسدها الثرى، وكانت تائها كطفل فقد أمه، بل كنت فعلا طفل فقد أمه فلا اعتبار لسنوات العمر وأنت تدفن والدتك. وقتها وجدني محمد (أبوغريب) من بين الجموع، واحتضنني فانسابت الدموع من عيوننا وكأنها عين واحدة..

وقبل ثلاثة أيام، تصل بي شقيقي الأكبر ليخبرني بوفاة محمد محمد خميس (أبوغريب) فلم استوعب الأمر في لحظتها، وحين أدركت ما سمعته، لم أقو على التحدثت فطلبت من شقيقي أن ينهي المكالمة..

مات أبوغريب..
هكذا انتهت رحلة آلام صديقي الذي أنهكه المرض وهو في بدايات الأربعينات من عمره، وتركني وسط أمواج من الأسئلة حول هذا العالم والحياة والموت في انتظار دوري..
سلام يا صاحبي.. لروحك السلام.  

الجريدة الرسمية