رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات من مصر.. "البصارة" موضوع خطبة الجمعة في عهد الفاطميين

صورة أرشيفية لمصر
صورة أرشيفية لمصر في عهد الفاطميين

على مدار العصور والعهود المتعاقبة، حفل التاريخ المصري بالعديد من الأحداث والحكايات التي ظلت تروى جيلا بعد جيل، أو تلك التي لم يعرفها الكثيرون.


وفي محاولة منه لرسم خيوط ما مر به المصريين، وحال حكامه المتواليين منذ العصور الوسطى، وحتى حكم أسرة محمد علي باشا، سخر المؤرخ والكاتب الصحفي صلاح عيسى قلمه على مواقف وأحداث أغلبها غير معروف، تنير لقارئها دلالات عصرها، ودونها في كتابه "هوامش المقريزي.. حكايات من مصر".

 

وفي صورة ومضات سريعة، وأسلوب سهل يفهمه الدارسين وغير الدارسين، نجح الراحل صلاح عيسى، في تسليط الضوء على فترة هامة من عمر الأمة المصرية. 

 

وفي نظرة خاطفة على حال المصريين إبان حكم دولة الفاطميين، وضح صلاح عيسى كيف كانت مواجهة أهل المحروسة لأنواع القهر والتعنت الذي فرضه بعض حكام الفاطميين. 

 

ويحكي صاحب "هوامش المقريزي" قائلا: عرفت مصر في العصر الفاطمي لونا من الحكام كانوا استمرارا لعذابها الطويل، لكن الشعب المصري كان يملك دائما ذكاء لم يفقده لحظة، وقدرة على السخرية لم تفارقه قط، وبهذا لم يستطع الفاطميون معه حيله، وكلما أغلقوا بابا للكلام فتح الشعب نافذة. 

 

كان المصريون قد اعتنقوا المذهب السني منذ دخلوا في الإسلام، وجاء الفاطميون ليفرضوا عليهم مذهبهم الشيعي، ولأنه فرض من أعلى فإن أشكال مقاومتهم له تعددت وتنوعت بالتالي أشكال القهر وألوانه، وكان لابد من الاحتجاج على ذلك.

 

وهكذا تحول خطباء المساجد إلى معلقين سياسيين يتحدثون في أحوال الدنيا بكلمات تبدو بريئة المظهر، وكأنها عظة عادية مما يقال كل صلاة، بينما هي في جوهرها تعليق سياسي ساخن على ما يجري بين المصريين وحكامهم. 

 

وفي كل جمعة كان الخطيب يقف ليتحدث عن شئ من سيرة النبي أو أصحابه أو التابعين، وبعد لحظة يكتشف المستمعون أن الخطيب يتحدث عن الحاضر بلغة الماضي، وتمضي فترة، يكتشف خلالها الحاكمون لعبة خطباء المساجد فتصدر الأوامر إليهم صريحة وواضحة بالكف عن تناول موضوعات معينة من سيرة الصحابة والتابعين، وبعدم استخدام الماضي للحديث عن الحاضر.

 

وفي أحد مساجد القاهرة وقف خطيب الجمعة، وبعد أن بسمل وحمد الله وصلى على الرسول الذي قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف... إلخ الحديث"، استطرد الخطيب مفسرا قائلا إنه يعني أن على المؤمنين أن يكونوا أقوياء، وواصل الخطيب كلامه قائلا: "والطعام مصدر من مصادر القوة، والبصارة يا عباد الله من أفضل الأطعمة لتقوية المؤمن، وهي تصنع من فول مجروش تشَّرب الماء ثم دق في ماجور أو سحق في رحى".

 

واستمر الخطيب يتحدث عن طرق صنع البصارة والفرق بين الطريقة المصرية والشامية في طهيها، وعن طبائع أهل دمياط وأهل الصعيد في تناولها، ليدهش المصلون وظنوا خطيب مسجدهم أصيب بلوثة، لكنهم بعد دقائق أدركوا أن الخطيب المشاغب قد أمر بالكف عن الكلام، وأنه لم يجد وسيلة ليقول لهم ذلك إلا أن يتحدث في موضوع ليس موضوعه، موضوع يبدو هازلا. 

 

وفي الجمعة التالية كان الأمر قد صدر للخطيب بعدم الكلام عن البصارة أو العجة أو أي طعام آخر.

 


الجريدة الرسمية