رئيس التحرير
عصام كامل

جحيم في الغربة ورُعب في الوطن .. وائل يلتقي والدته لأول مرة بعد النجاة من «كورونا»

فيتو

تتراقص الفرحة في صدره بينما يخطو مسرعا ناحية الشارع الذي يقع فيه منزل الأم بمنطقة غمرة في القاهرة، تتسارع دقات قلبه كلما اقترب من البيت، ثلاث سنوات من الغياب عن الوطن والبيت وحضن الأم،  يهمس لأولاده أن يصمتوا حتى لا تستمع الجدة لوقع خطواتهم، وفي الطابق الثالث يحدث اللقاء، يُفتح الباب لتظهر من خلفه فتاة صغيرة وفي الجوار تقف الأم مذهولة ممسكة بالابن "وائل محمد" أحد أبناء الجالية المصرية العائد من مدينة ووهان الصينية التي ظهر بها فيروس كورونا القاتل، بعد أن قضى أيامه الأربعة عشر في الحجر الصحي الذي نظمته وزارة الصحة المصرية لـ 302 مصري الذين قدموا من الصين، في أحد فنادق محافظة مطروح، ليكن اللقاء الذي سبقته "غُربتان"!

 

 

"غربة خارج الوطن، وغربة جواه استمرت 14 يوما، إحساس صعب لما تكون في بلدك ومش عارف تشوف أهلك وإنت متغرب عنهم سنين"، بهذه الكلمات يصف وائل محمد طالب الدكتوراة في علوم أمراض النباتات الفيروسية والتكنولوجيا الحيوية في جامعة وسط الصين الزراعية الواقعة في مقاطعة "ووهان".

 

رحلة قصيرة لم تتعد الـ 14 يوما، لكنها تركت في نفسه الكثير، فهي تجربة تستحق أن تُروى، يحاول وائل أن يعيدها إلى ذهنه من خلال روايتها علينا، كيف عاش والأولاد الثلاثة والزوجة عبير 50 يوما في مدينة "الرعب" ومستوطنة الوباء في الصين، كيف مرت ساعات انتظار العودة إلى الوطن، وحكايات الـ 14 يوما في الحجر الصحي المصري، والحياة من خلف "الماسكات" الطبية.

 

 

في سبتمبر من عام 2017 سافر وائل إلى مقاطعة ووهان الصينية، من خلال منحة دراسية ممولة من الحكومة الصينية لدراسة الأمراض البايو فيروسية للنباتات في جامعة "وسط الصين الزراعية"، تعلم في بدايتها اللغة والثقافة الصينية بتفاصيلها المختلفة والكثيرة، استقر به المقام في مبنى الطلاب الملحق بالجامعة، وبعد مرور 5 أشهر من الإقامة في الصين، نجح في تقديم طلب استقدام للزوجة والأبناء للعيش معه في ووهان الصينية، وهناك استقرت الأوضاع شيئا فشيئا، وتمكن الزوجان من تعليم الأبناء من خلال السفارة المصرية في الصين..

"حياتنا كانت بتسير في إطار طبيعي ومريح جدا، كنت بدرس من 8 صباحا حتى 10 مساء كل يوم، والأم بترعى الأولاد لحد يوم 25 ديسمبر 2019".

 

 

يوم الخامس والعشرين من ديسمبر من العام المنصرم، إنه نوع من الأيام الذي تتبدل به الأحوال وتتغير دفة الحياة كليا لتنقلب رأسا على عقب، فلا تعود كما كانت في السابق، كانت ليلة الاستعداد للاحتفال برأس السنة الميلادية، الأطفال يستعدون لتقديم العروض الخاصة بالجالية المصرية في الحفل.. “عادة في اليوم ده كل سنة كل جالية بتجمع أولادها وبننزل الملعب أو الساحة الكبيرة الملحقة بالجامعة للاحتفال"، في هذا اليوم تحديدا وقبل بدء الاحتفال بساعات، بثت المواقع الإخبارية الصينية تحذيرا معمما لكافة سكان مقاطعة ووهان، ألا ينخرطوا في الاحتفال ويتواجدوا في جماعات، بسبب ظهور حالة إصابة بالمقاطعة لشخص حامل لفيروس يسمى "كورونا"، لأول مرة يطرأ الاسم على أذن وائل، لم يعرف ماهية هذا المرض وكيف يتم انتقاله، إلا أنه سارع إلى احتجاز الأم والأبناء داخل المسكن.

"قبل اليوم ده بشهر مكنوش أعلنوا عن المرض بصورة مباشرة، لقينا تحذيرات من عدم التواجد في تجمعات كبيرة، لأنه فيه حالة اكشتفوا إصابتها بفيروس كوورنا وعرفنا من خلالها إنه فيه فيروس اسمه كورونا في الصين، جوه المبنى بتاعنا مكنش فيه أي حالة مصابة، لقينا في ساعات قليلة نسبة الإصابة بتعلى والوفيات بتعلى، وده كان بضغط من منظمة الصحة العالمية، علمونا إزاي نلبس الماسك ونعقم إيدينا".

 

 

يوم ينقضي ويعقبه يوم آخر، باتت مقاطعة ووهان بمثابة المنفى والسجن الكبير، احتجز فيه وائل وأسرته وغيرهم، داخل مبنى الجامعة دون أمل في الخروج من هذا المأزق، جميع مداخل المقاطعة أُغلقت، انعزل المصريون عن العالم، لم يكن أمامهم إلا تطبيق "وي شات" الأوسع انتشارا في الصين لمناشدة السلطات المصرية بضرورة إخراجهم من هذا المنفى بسلام..

"50 يوما قضيناها في خوف ورعب وقلق طوال الوقت من أي حركة ممكن تتسبب في إصابتنا بالفيروس، إحنا مؤمنين بقضاء ربنا، لكن كنت بخاف على الأولاد، لما بلاقي التحذيرات بتزيد وحالات الوفاة نفسها بتزيد، كانت كارثة بالنسبة لنا خاصة إننا في الدولة الحاضنة للفيروس".

 

 

في مطلع الشهر الحالي، وبعد أن كاد وائل يفقد الأمل في العودة للديار مرة أخرى، جاءت تعليمات من قبل السفارة المصرية في الصين بضرورة عودة المصريين المحتجزين في ووهان إلى مصر في رحلة مجانية ستنطلق في تمام الخامسة من عصر يوم الاثنين الموافق الثالث من فبراير..

"لحظة الانتقال من ووهان للمطار وركوب الطائرة اللي راجعة لمصر، كانت أسعد لحظة ممكن تعدي علينا في الحياة، وصلنا مصر الساعة 7 صباحا تاني يوم في فندق المشير أحمد بدوي في محافظة مطروح". 

 

 

في فندق المشير بمرسى مطروح، بدأ وائل وأسرته يسطران صفحة أخرى في حكايتهم مع مواجهة فيروس كورونا من ووهان الصينية إلى مطروح المصرية، ثلاث مبان اشتمل عليها الحجر الصحي الذي خصصته وزارة الصحة المصرية، حجر جديد وعزل إضافي ومواصلة لعملية الصراع من أجل مكافحة الكورونا، ولكن هذه المرة على الأراضي المصرية، وسط جماعات الأصدقاء وأبناء "البلد الواحدة"..

"نزلت مع الأسرة في غرفة، وأول ما دخلنا الفندق لقينا كل حاجة متوافرة من لبس ومأكل ومشرب وكافة المتعلقات اللي بنحتاجها، الناس كانت بتتعامل معنا بوعي شديد وكانوا لابسين ماسكات طول الوقت".

 

 

على مدار الأربعة عشر يوما وهي فترة حضانة المرض، والتي حرصت الوزارة ضمن التدابير الاحترازية لها أن يكون العائدون من ووهان تحت  ملاحظة الأطباء خلال هذه المدة، بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها بعض الشيء، غربة داخل الوطن، استطاع أبناء مصر أن يواجهونها بالصداقات والجلسات الليلية للسمر والحديث في كافة شئون الحياة، بينما يلهو الأطفال في الحديقة الملحقة بالفندق مدة 3 ساعات يوميا، لم يعكر صفو الأيام إلا الهواء الذي انحسر كليا ليجتمع فقط "خلف الكمامات"..

"مكناش بنمشي من غير الكمامة لحد آخر يوم في الحجر الساعة 6 صباحا لما قالوا لنا: دلوقتي تقدورا تقلعوا الماسكات، حرية لا تضاهيها حرية" يتحدث وائل محمد.

حوالي ثلاث مرات في اليوم الواحد يتعرض وائل وأبناؤه لقياس درجة الحرارة وكذلك حرارة الغرفة، مطهرات وأدوية ومواد تعقيم وحالة من الاستنفار "الطبي" يعيشها الكبار والصغار في هذا المبنى الكبير، حكايات تروى ومناقشات تعقد وكأن المقام قد استقر بالـ 302 مصري في هذا المبنى البعيد..

"كنا حاسين بالعزلة تماما ومش عارفين نتواصل مع الأهل لحد ما أحضروا لنا في خلال أيام خطوط محمول مشحونة رصيد وقدرنا نطمن أهالينا علينا".

الجريدة الرسمية