رئيس التحرير
عصام كامل

محمود عبدالدايم يكتب: الحنين هو الآخر يخسر معاركه

الكاتب الصحفى محمود
الكاتب الصحفى محمود عبدالدايم

ثلاث مكالمات فائتة لم ألتقط إحداها، كنت ممددًا على الكنبة في شقتنا الجديدة بعدما سقطتُ من التعب، رأيتُ فى غفوتي أبي مرتديًا بذلة من تلك النوعية التي تصلح لحضور حفلات الزفاف، وابتسامته تغطي وجهه.. غير أنه كان يقف وحيدًا في وسط صالة أُعدَّتْ لحفلِ زفاف.. ورغم هذا الغياب كان أبي سعيدًا.

 

اقرأ أيضا: الموت لا يُحب الانكسار

 

سقوط الهاتف على أرضية الصالة انتشلني من الحلم الغريب هذا.. الضوء الأخضر لشاشة الهاتف أنبأني بمكالمة لا يزال صاحبها ينتظر أن أجيب، رقم غريب يعلو الشاشة، ضغطتُ الزرَّ الأخضر، ليخترق أذني صوت المرأة الغاضبة المذعورة من وجود رجل غريب في حجرة نومها يغط في نوم عميق.

 

«أبوك هنا.. عليك أن تمر عليّ لإقناعه بمغادرة سريري وغرفة نومي.. وعدم الاقتراب من بيتي مرة ثانية».. كلمات متوترة.. متقطعة لم تخلُ من خوف، جاءت في مكالمة من السيدة التي تقطن فى شقتنا القديمة.. الساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، مررتُ على غرفته ووجدت سريره لم يمسسه بشر، أيقنتُ أن السيدة الغاضبة على حق، وأنه ينام الآن على سريرها ويحلم في غرفة نومها.

 

اقرأ أيضا: سجين الظل!

 

في طريقي لإخراج أبي من غرفة نومه القديمة، تذكرت ساعات الصباح عندما فاجأني بطلبه أن أحلق له ذقنه.. أمي دائما كانت المسئولة عن هذه المهمة القاسية، محاولاتي للتخلص من هذا المأزق بالبحث عن مرآة وسط أكوام الصناديق التي لم تُفتح بعد منذ انتقالنا إلى شقتنا الجديدة، لم تنجح، ولا يمكن أن يمرر أبي مفتاح الشقة خارجًا دون أن يكون ذقنه حليقا.

 

رضخت أخيرًا لهذا الوضع الطارئ، لأول مرة منذ سنوات طويلة أقترب من أبي إلى هذه النقطة، لمحت التجاعيد، أحصيتها، تحت جفنه الأيسر، على خديه لتكشف أسرار ضحكات كانت تمرُّ من هنا، مررت شفرة الحلاقة على تفاحة آدم وجرحتها، انقبض وجه أبي بعدما أحس بجرحي إياه، لكنه لم يتحرك، تبادلت معه نظرة اعتذار، قبل أسفي على مضض، وقد علا الغضب والضيق ملامحه من هذا الموقف.. يبدو أنه أحس باقترابي إلى هذه الدرجة.

 

اقرأ ايضا: نحن «الثُلث».. ولنا الفقر كله!

 

لحقت بسلامه الذي ألقاه قبل أن يغلق الباب ويتوه مِني فى زحام الصناديق المغلقة، وعندما رفعت عيني لأرده واجهني الباب المغلق والمهام الكثيرة التي مررها على مسامعي أثناء حلاقتي لذقنه، «فتح الصناديق.. فرد السرير المعدني في حجرته.. رص ملابسه الداخلية في الأدراج، وضع بذلاته التسع في الدولاب.. وإحصاء أزواج أحذيته قبل أن أتركها طليقة خلف باب الشقة الجديدة».

 

أعدت أوامر أبي مقلدًا صوته المحايد مثل وجهه، لم يكن أبي حزينًا أو سعيدًا يومًا، دومًا كنت أراه يقف على خط منتصف المشاعر، وإن كنت لم أرث منه هذه الصفة إلا أنني حرت كثيرًا فى الوصول إلى منتصفها يومًا ما.. كنت أريد أن أشبهه فى شيء عدا وجهه الطويل.. وذقنه التي لطالما كانت غابة من الشعر.. كنت أريد أن أحمل جزءًا من روح أبي.. وفشلت.

 

اقرأ ايضا: خريف

 

انقطع خيط الحديث بيني وبينه منذ أشهر عشرة، عندما فاجأني في صباح شتوي بقرار مغادرتنا شقتنا، قال: «أصبحت أكثر اتساعًا علينا، نحتاج مساحة أصغر، تكفينا شقة من غرفتين، ما حاجتنا للغرف الخمس، والأثاث الكثير.. سامح الله أمك.. كانت تريد أن تعيش هنا.. كانت تحب أن تعيش هنا.. لكنها الآن لا تمتلك إلا أن تدعو لنا بأن نجد شقة تناسب وضعنا الجديد».

 

في اليوم السابع لمحادثتنا التي لم أنبس فيها بكلمة، أخبرني أنه وجد الشقة المناسبة.. تساءلت في غضب مكتوم: إلى هذه الدرجة كانت تريدنا أمي أن نرحل من هنا؟!.. لم يرد..! فى اليوم الثامن الذي تزامن مع يوم ميلادي، بدأ أبي رحلة محو ماضينا، قبل أن أصحو قرر أن يمنح دار المسنين على ناصية شارعنا القديم ملابس أمي، فتح الباب  لعشرات السماسرة لمعاينة أثاث المنزل، واختار سمسارًا بعينه بعدما اكتشف أن جذوره ضاربة فى أرض القرية التي غادرها منذ سنوات طويلة، منحه كل شيء دون أن يدخل معه في مفاوضات للحصول على السعر الأفضل!

 

اقرأ أيضا: الزاوية الرابعة

 

لم يحضر أبي واحدة من حفلات عيد ميلادي، لطالما أتقن اختراع الحجج للبقاء بعيدًا يومها، لهذا أشك أنه  يعرف كم أبلغ من العمر، لا يعرف في أي عام دراسي أدرس الآن.. يمنحني الأموال عندما أطلبها، ويكتفي بـ«طبطبة» باردة لكتفي في كل مرة، وكأنه يتمنى أن تذهب أمواله إلى المكان الصحيح!

 

حملت أبي الذي كان نصف واعٍ لما يحدث، رائحة فمه أنبأتني بأنه – ولأول مرة – مرّ على أحد البارات، كانت الرائحة كريهة وفائحة جدًا، لم أفهم ما الذي دفعه إلى هذا الفعل إلا عندما أنصتُّ إلى صوته وهو يهذي بين الصحو والنوم في الكنبة الخلفية للسيارة، كان يحدثني عن سنوات طفولته، لقائه الأول بأمي، لحظة ميلادي، الليالى الكثيرة التي ظل ينتظر فيها خارج باب الشقة منصتًا لصوت أمي وهي تتمنّى لي عامًا جديدًا سعيدا..

 

اقرأ أيضا: جسد يصنع الفراشات

 

بينما كنت بدوري غارقًا في الكلمات الأخيرة التي قالتها لي السيدة وهي تساعدني في حمل أبي إلى السيارة: «إنه الحنين يا بني.. أبوك مريض بالماضي، يريد أن يوقف عقارب الساعة عند لحظة عمره، يقاوم الزمن ويرفض أن تتحرك إلى الدقيقة الثانية فالثالثة فالرابعة.. أبوك يحارب معركته الأخيرة، وهو على يقين أنه سيخسرها».

الجريدة الرسمية