رئيس التحرير
عصام كامل

محمود عبد الدايم يكتب: جسد يصنع الفراشات

محمود عبد الدايم
محمود عبد الدايم

إلى جانبِ اللحظاتِ الّتي كنتُ أتمكنُ فيها من رسم ابتسامة على وجه أمي المُنهك على الدوام، كانت أم كلثوم بسهولة -فشلتُ في فكِّ طلاسمها- قادرةً على أن تحملَ أمّي إلى السماء.. أذكُرها عندما تُدندن بصوت مشروخ من الحزن «ستائر النسيان نزلت بقالها زمان».. وأحمل في ذاكرة قلبي ضحكتَها الصافيةَ الّتي غزلَتْها على وقعِ صوتِ الستِّ وهيَ تتساءلُ «هو صحيح الهوى غلّاب».. ضحكت أمي من قلبها.. وأجابتْ الستَّ وكأنَّها تشربُ معها الشاي بجوار النافذة الوحيدة التي كان يسمح أبي لها أن تطل منها على الدنيا: «وابن كلب كمان يا ثومة هأ هأ هأ ».


سامحَ الله أمي.. لسنواتٍ طويلة أقنعتْني أنني رجلُها، رجلُ البيت.. رجلُ المدينة.. رجلُ البلاد.. ورجلُ العالمِ كله، كنتُ وحيدَها الذي منحتْه الأشياءَ جميعَها.. كنتُ تسليتَها الوحيدة.. وهمَّها الوحيد.. فرحتَها الوحيدة.. وأملَها الأخير.. صنعتْني كما أرادتْ، ووسط كل هذا نسيتني!

كبرتُ في حِجرِ أمّي.. عينِ أمي.. قلبِ أمّي.. لمْ أفارقْها للحظاتٍ.. صغيرًا كانتْ تربطني – فعلًا وليس قولًا – في ذيل جلبابها المنزلي الأسود المنقط بزهور بيضاء صغيرة جدًّا.. تدورُ بي في حجرات البيت.. تُطعم دجاجاتِها.. تُجهّز الغداءَ لأبي.. تبكي في غرفة «الخزين» سنواتِها التي ضاعتْ مع رجلٍ مثله.. قاسٍ.. لا يعرفُها ولم تعرفْه.. وعندما كبرتُ.. وضعت جدولًا لمواقيت خروجي وعودتي.. لم تغرب الشمس يومًا على ظلي خارج جدران -أسوار- بيت أُمي.. والغريب هنا.. أنني لم أتمرد.. بل كنتُ على الدوام مستعدًّا لمزيدٍ منها.. روحي الفارغة لم تنشغل كثيرًا لرفض تحكّمات أمي.

جسدي اعتاد على ضرباتها التي لم تفقد قوتَها بمرور السنوات.. البقع الزرقاء الممزوجة بقليل من الخُضرة لا أزال أشعر بِها في أكثر مناطق جسدي خصوصية.. تقرصني بأصابعها النحيلة عندما أخطئ.. وتقرصني عندما أكون ولدًا جيدًا.. تقرصني في كل الأوقات.. سعيدةً كانتْ أو حزينةً.. وكأنَّها تُريد أنْ تطمئنَّ عندما تسمعُ الـ«آه» المؤلمة التي أصيحُ بها، أنني لا أزالُ على قيد الحياة.. و«القرص» وسيلتُها الوحيدةُ لإثباتِ هذا!

مقامرة مع القدر أفقدتْني أُمّي.. بلغتُ التاسعة عشرة وقرّرتُ التمرّدَ على «قوانين السيدة الوالدة».. لُذتُ بالشارع ساعاتٍ طويلة، بعدما فقدتْ خطواتي معناها في استكمال مسيرتي الدراسية.. خَرَجتُ -أُخرِجتُ تحديدًا- من المدرسة.. ووجدْتُني وحيدًا في الشارع.. لم أتدحرجْ كثيرًا عن منطقة نفوذ «السيدة الوالدة»، ظللتُ أدورُ في فلكِها، وإن كانَ دورانًا بطيئًا معظم الأوقات.. عشوائيًّا على الدوام.. لكنني لم أنحرف عن مدارِها تمامًا حتى كانت «ليلة المقامرة»!

انتابتني مشاعر غريبة بعدما أصبح بيتنا –بيت أمي– خلفي.. في ظهري.. شعرتُ أنني أزدادُ طولًا.. أنتفخ.. أكبر.. أتضخم.. لحظتها.. لمحتُ «قرصاتِها» المحفورةَ على جسدي تتحول إلى فراشات جميلة.. مدهشة.. فراشات انسلخت عن جسدي.. وكأنني كنتُ مجرد شرنقة (ملاذًا آمنا) لها حتى تكتمل أجنحتُها وتستطيعُ مغادرتي.. الطيران.. مواجهة العالم.. حاولتُ استردادَ هذا الشعور مرات كثيرة على مدار السنوات الماضية، غير أنني كنتُ أتضاءل.. جسدي ينكمشُ.. يذهب صوتي.. وأغرق في موجة عالية من العرق البارد.. أكون على حافة الذوبان والتلاشي.. فشلت في كل مرة حاولت فيها «صناعة الفراشات»!

صباحًا.. عائدًا بنصف وعي، ونصف روح، وجسد على وشك الانهيار.. اصطدمتُ بوجوه الجارات الحزينة.. الكئيبة.. نظراتهن المستاءة أخبرتْني أن الكارثةَ طرقتْ بابَ بيتِنا.. غيرَ أنَّ الموتَ لمْ يكنْ موجودًا على قائمة المصائب التي توقعتُها.. في العادة.. غضبُها لن يتجاوزَ صرخاتٍ عاليةً تُطلقُها في فضاء البيت، وسرعان ما تشقُّ طريقَها عبر النوافذ التي تُصرُّ على تركها مُشرعة منذ رحيل الزوج، وعبرَ الشقوق الصغيرة التي تحفظُ دموعَها وأنينَها منذ سنوات دون أن تمنحَه فرصةً للإفلات.. لكنها ماتتْ من الانتظار.. من انتظاري أنا الذي كنتُ أفكّر يومَها في مغادرة الكوكب كله.. لكنهم للأسف لم يُنظموا رحلات منتظمة إلى البعيد!

ماتت أمي في الفجر.. أظنُّها دارت مليون دورة في صالة منزلنا.. أتخيلها الآن تقف على باب حجرتي تطرقه ألف ألف مرة.. وهي تعلم أنني لن أردَّ عليْها.. تركتُ لها البيتَ في الظهيرة.. خرجتُ تلاحقني لعناتُها.. ويطردني غضبُها.. هَجرْتُها.. أو كنتُ مصممًا على هجرانها.. لا أعرف.. أقسمت برأس أبي، وأنا أتجاوز عتبة بابها ألا أعودَ.. غير أنني عُدت لأجدها قررت الرحيل.. «غياب بغياب إذن».. أظنها جملتها الأخيرة التي ألقتها على العالم قبل أن تذهب!
الجريدة الرسمية