رئيس التحرير
عصام كامل

محمود عبد الدايم يكتب: سجين الظل!

محمود عبد الدايم
محمود عبد الدايم

تجاهلْتُه في الأيامِ الأولى، لكنّه اليومَ صارَ حادًّا إلى الدرجة التي لن يُجدي معَها تجاهلي المعتاد.. بالفعل، ظلّي أصبح أكثر انحناءً من هيئتي.. نتوءاتٌ عدة تبرزُ على ظهرِه، ظهرِي أنا مستقيمٌ، كانَ متصدعًا بينما أرقبه مُلقًى على الأسفلت إلى جواري، أو متخفيًا بين أقدامي.. كان مُنهكًا جدًّا.. مُتعبًا.. أصابع يده اليسرى كانت طويلة إلى حدٍّ مخيفٍ.. في حين كانتْ أصابعُ اليمنى عاديّة.. طبيعية لم ولن تلفت الانتباه، غير أنها كانتْ بأربعةِ أصابع فقط!


تقريبًا.. لم أقابل ظلًّا كريمًا مثل ظلي.. منحني مفاجأة أخرى لم تخلُ من غرابة وجنون في آن واحد.. كان يتبعني دائما، لم ألحظه يهرب عندما يُتاح للظلال الهروبُ، شمس الظهيرة لم تجعله غائبًا.. غائمًا.. كبقية الظلال التي عرفتُها ولمحتُها طوال السنوات الماضية.. ظلي كان حاضرًا.. بتعبِه.. وانهاكِه.. وأصابعِه الطويلة.. ويده ناقصة الإصبع!

ظننت الحكاية كلها تهيؤات.. مررت كثيرًا بالمحطات الخرافية.. التهيؤات المستحيلة.. ففي السابعة من عمري قتلت أشقائي الثلاثة.. ودخلت الإصلاحية.. وصرت مجرمًا.. وقتلتني عشيقتي بجرعة سم مميتة.. وفي العاشرة.. أقنعت أصدقائي أنني يتيم الأب والأم.. وسردت لهم معاناتي مع جدتي لأمي!

كنت أتقن صناعة الحكاية.. أعرف متى أضيفُ الجزءَ المرعبَ.. متى أداعبُ القلوبَ.. متى أرفعُ يدي ملطخةً بالدماءِ، ومتى أضغطُ جيدًا على موضع انسكاب الدموع.. لأرى دموعًا صادقة لا تليق بأكاذيبي.. لكنني كنتُ أعودُ كلَّ مرةٍ دونَ أن أخسرَ شيئًا.. تهيؤاتي على الدوام كانت مُطيعةً.. لكن هذه المرة لا أعرف.

سريعًا أصابني المللُ من ظِلي المُتطفل.. بدأت أتهربُ منه.. فكّرتُ في قتلِه.. لكنني كنتُ سأقتلُني وأنا أقتلُه.. الظلامُ سلاحي الأول في معركة إجباره على الغياب.. تركتُ الشوارع المضيئة جميعها.. اخترتُ أكثرها ظلمةً، ومع أول خطوة في طريق القتل.. أفلتت مني ابتسامةٌ شريرةٌ.. خطوت ببطءِ قاتلٍ محترفٍ إلى الشارع، خمس خطوات وكنتُ في مرمى نيران ظلي.. كان حاضرًا إلى جواري.. الملعون، لم يقتله الظلام، بل توهَّج كثيرًا.. لامعًا إلى درجة مخيفة كان.. منحه الظلامُ حياةً جديدةً، هيئةً مخيفةً.. وأخذَ مِنّي روحي للحظاتٍ.. انتفضتُ طوالها.. تذكرتُ تهيؤاتي.. أكاذيبي.. وقعتُ في المصيدةِ التي كنت أصنعها للآخرين.. أصبحت أخيرًا ضحيةً.. غير أنني لم أكن أتقن البكاء!

ثلاثة أيام لم أغادر غرفتي قط.. صرتُ سجينَ الظل، الظلام الحالك في الغرفة لم يفلح في إبعاده.. إخفائه، محاولات النوم لم تكن ذات فائدة، كل مرة أجده أمامي.. واقفًا.. قاطعًا طريقي.. كان يمتلك خمسَ أذرع.. وأربعَ أرجل.. وثلاثة وجوه.. كان غريبًا.. الوجوه الثلاثة كانت تحمل ابتسامةً واحدةً.. وقحةً.. مخيفةً.. أفواهُهُ الثلاثةُ كانت بلا أسنانٍ، سواد غير منتهٍ كان يظهر داخلها.. سواد مُرعب جدًا.. كان ظلي جيدًا في إخافتي.. فهجرت النوم!

في اليوم الرابع، تمردت على سجني.. قررت حلاقة ذقني.. الحصول على حمام دافئ.. الخروج.. تمامًا تجاهلت الظل.. مررتُ شفرة الحلاقة على خدي الأيمن.. فتحت فمي على آخره.. أحصيت أسناني.. لمحت في انعكاس فمي المفتوح ضرسي الأخير.. كان قريب الشبه بأحد أفواه ظلي في حلمي المرعب.. كان خاليًا من أي شيء إلا السواد اللا منتهي.. أطبقت عليه.. مسحت انعكاسه سريعًا من فوق المرآة.. وأكملت حلاقة الذقن التي نبتت بتهوّرٍ وجنون خلال الأيام الماضية.

تعطرت.. منحت ظلي قليلًا من العطر، محاولة لأن أكون لطيفًا معه على غير عادتي.. قليل من الرقة لا يؤذي، علّه يكون كريمًا ويتركني إلى حين!

اصطحبتُ ظلي إلى أماكني المفضلة.. دُرنا سويًّا في «وسط البلد»، منحته حديثًا دافئًا عن جغرافيا العشق فوق كوبري قصر النيل، أخبرته للمرة المائة حكاية الأسود التي خرجت إلى العالم دون شوارب، ضحكت على النكتة التي صارت حقيقة، لكنه لم يضحك.. أشرت بإصبعي الأوسط إلى هناك.. أخبرته أن مصائرنا يتداولونها في هذا المكان، تركته يتأمل الساعة ذات العقارب فاقعة الخُضرة.. ومنحته خمسًا وعشرين دقيقة لالتقاط أنفاسه في ميدان التحرير، قبل أن يأمرني أمين الشرطة برفع عظام مؤخرتي سريعًا من فوق الرصيف، زاعقًا: «في موكب هيعدي.. امشي من هنا»..

انسحبت مسرعًا.. لا أدرى إن كنت في وسط حلم، أم أنها الحقيقة، سمعت صوت أنفاس ظلي المتقطعة، كان يحاول مجاراة سرعتي.. لمحته ممسكًا بسيجارة، يضغط عليها بغيظ.. أبصرته يقف.. يترنح.. يقاوم الانهيار.. يسقط.. مد أحد أذرعه الخمس لالتقطها والتقطه من المكان.. تراجعت.. دارت ماكينة أفكاري..

فكرت أن أكون نذلًا – كعادتي- وأتركه مُلقًى على الأسفلت.. لمحت أرقام إشارة المرور تسرع ناحية الضوء الأحمر.. سأتركه.. ستدوسه عجلات السيارات.. ستهرسه.. ستنهي حياته هنا.. وسيتركني وحيدًا.. فكرت أن أصبح «الرجل الذي قتل ظله».. شعرت بالخزي.. مددت يدي.. التقطته في الثانية عشرة.. حملته على كتفي.. وأسرعت.. تمكنت من عبور الشارع.. مخترقًا العشرات الذين يحملون أعلامًا خضراء وحمراء وبيضاء ووجوهًا مريضة.. منتظرين عبور «الموكب»!
الجريدة الرسمية