رئيس التحرير
عصام كامل

مؤتمر الإفتاء.. الخلاف الفقهي استثمار


الخلاف وما أدراك ما الخلاف، فقد يكون الخلاف صحيا مثمرا فكرا وفقها، إذا قام على أسس حضارية، وضعها السابقون الأولون من العلماء والفقهاء الذين كانوا يسيرون على منهجية عدم التعصب أو التحزب لرأيهم أو استنتاجهم الفكري العلمي الذي توصلوا إليه، فكانوا دائما ما يرددون: رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب..


لكن جرت في النهر مياه كثيرة، جرفت معها أسس وأصول الخلاف الحضاري، واختطف الدخلاء على الفكر الإسلامي تلك الميزة الحضارية في الخلاف، وجعلوه شيعا وأحزابا، وأسسوا وفق هواهم فقها جديدا لا ينتمى إلى سماحة الإسلام ولا وسطية منهجه، لذا كان لزاما نعلى المؤسسات الدينية المهمومة بقضايا الأمة أن تسعى لتصحيح المسار، وإعادة الخلاف إلى طريقه المستقيم، بعيدا عن تشجنات المتعصبين، وأراء المتنطعين، لذلك اختارت الأمانة العامة لدور الإفتاء في العالم أن يكون استثمار الخلاف الفقهي موضوع مؤتمرها الخامس، والذي يجتمع له ممثلو الإفتاء من خمسة وثمانين دولة حول العالم، ليستلهموا التجربة المصرية الرائدة في التعامل مع الاختلاف المذهبي.

لقد وضعت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم هدفًا استراتيجيًّا يتبنَّى تجفيف منابع التطرف، والسعي إلى تقديم نموذج إفتائي يعتمد تقديم منهجية تسعى إلى الإسهام في حل المشكلات ودعم الاستقرار والمشاركة الحضارية الإنسانية، وكان هذا الهدف الإستراتيجي هو الخيط الناظم لأفكار وأهداف المؤتمرات السابقة للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ومن ثم توالت المؤتمرات؛ فجاء المؤتمر الأول الذي عُقد تحت مظلة دار الإفتاء المصرية وانبثقت عنه فكرة الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم بعنوان: "الفتوى… إشكاليات الواقع وآفاق المستقبل" وذلك في أغسطس ٢٠١٥م.

ثم المؤتمر الثاني بعنوان: "التأهيل العلمي والإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة" وذلك في أكتوبر ٢٠١٦م. والمؤتمر الثالث بعنوان: "دور الفتوى في استقرار المجتمعات" وذلك في أكتوبر ٢٠١٧م. ثم المؤتمر الرابع بعنوان: "التجديد في الفتوى بين النظرية والتطبيق" وعقد في أكتوبر ٢٠١٨م.

ويأتي هذا المؤتمر ليمثل لؤلؤة تالية في العقد الناظم الذي يسعى نحو الأهداف السابقة؛ فيعالج قضية إفتائية كبرى في طريق الاستقرار والتنمية والمشاركة الإنسانية الفاعلة، بعنوان: (الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي).

ينطلق طرح هذه الفكرة من إرادة حقيقية لا تقف عند معالجة المشكلات الفكرية والأخلاقية في تناول الخلاف الفقهي، وإنما تمتد إلى نية صادقة لاستثمار هذا الخلاف وإدارته بأسلوب رشيد ليكون أداة فاعلة في دعم منظومة المشاركة الفقهية والإفتائية في الحضارة المعاصرة بعمومها وخصوصها على المستوى المحلي والصعيد الإنساني.

ولا ريب أن معالجة قضية إدارة الخلاف لا تزال تشغل العقل الإنساني بعد حقب تاريخية طويلة، انتفعت الإنسانية في بعضها بثمرات الخلاف، وعانت في بعضها الآخر من ويلات التعصب الديني أو الطائفي أو المذهبي.

وليس ببعيد عنا تلك الحروب الطويلة التي رزحت تحتها بعض الدول في قارة أوروبا، والتي سُميت بالحروب الدينية، وراح ضحيتها ما يتراوح بين ثلاثة الملايين والاثنى عشر مليون إنسان، وكانت سببًا تضافر مع غيره من الأسباب لولادة نموذج معرفي استقى منه آباؤه المؤسسون أفكارهم وفلسفتهم حول التسامح، ويأتي على رأسهم الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1704م).

وفي مقابل هذا النموذج لم تكن تجربة المسلمين بنفس المسلك الذي ولد منه وسار إليه هذا النموذج؛ فمع أن التاريخ الإسلامي لا يخلو -كتجربة بشرية- من بعض ممارسات التعصب المذهبي، فإنَّ ما نتج عن هذه المشكلات من خسائر لا يقارن بما نتج عن غيره من النماذج، كما كان من ثمرات هذه الخلافات الفقهية أن انتفعت التجارب الإنسانية، وخصوصًا في جوانبها التشريعية، بما أنتجته المدارس الفقهية الإسلامية على تنوعها واختلافها.

ولا شك أن ما يعيشه العالم اليوم من تقارب في الاتصالات والمواصلات وتدافع عظيم في عالم الأفكار والاتجاهات يطرح علينا تحديات جسامًا، خصوصًا في إدارة الخلاف الفقهي الموروث واستثماره في معالجة القضايا والمشكلات الراهنة. ويتمثل التحدي الأول في تفادي أن يكون الخلاف الفقهي سببًا في صراع مذهبي أو طائفي بين المسلمين أنفسهم.

هذا الصراع الذي حدث في بعض الأوقات ومع إساءة إدارته استغلته بعض الجماعات المتطرفة لارتكاب وتبرير أفعالها الإجرامية التي هي بمنأى عن المقاصد والأخلاق والقواعد التي نبعت منها هذه الخلافات، ويبقى هذا تحديًا تجب مواجهته ومعالجته من المعنيين بأمر الإفتاء.

وإذا كان الخلاف الفقهي قد تم استثماره والإفادة منه في التجارب الإنسانية الاجتماعية والتشريعية على مدار التاريخ داخل بلاد المسلمين وخارجها، فإنه من الأجدر بنا ألَّا يتوقف العطاء الحضاري للمسلمين في هذا الوقت الذي تُختبر فيه الأفكار بمدى إسهامها في الحضارة الإنسانية.

ويلح السؤال الآن: ماذا سيقدم المسلمون للحضارة الإنسانية اليوم من خلال تجربتهم الفقهية المعاصرة؟

وهنا تطرح فكرة المؤتمر سؤالها الأكبر الذي نرجو أن يعالجه في محاوره وجلساته وفاعلياته جميعًا: كيف نستثمر الخلاف الفقهي ونديره إدارة رشيدة في مواجهة التطرف ودعم الاستقرار والمشاركة الفاعلة على المستويات الوطنية والإنسانية والعالمية؟

لا تزال الدعوة إلى التجديد قائمة بتجدد الحياة، ولن تتوقف ولا تزال هناك فرصة حقيقية أن نحول التنوع والاختلاف الفكري إلى استثمار حضاري ننمي فيه ذاتنا ونسهم في إفادة الآخرين.
الجريدة الرسمية