رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

دراكولا يشرب اللبن


بعد أيام قليلة من تنصيبه، توافد الكبار والأعيان على قلعة الحكم لتأكيد البيعة وتقديم فروض الطاعة والولاء للملك الشاب الذي جاء خلفا لوالده، في عملية انتقال سلس للسلطة، أو هكذا تبدو الأمور، بينما الحقيقة لم تكن كذلك، فهذا الرجل الصغير أرغم أباه على التنازل عن العرش، بحجة تفادي ثورة الرعية، بعدما تمكن الفساد من أوصال البلاد.


في الحفل، رقصت الحسان وقدم مطرب المملكة الأول حفنة من الأغاني الوطنية، التي يؤلفها كبار رجال القصر، ويرددها العامة في الشوارع والحقول وحتى في بيوتهم وهم في غرف نومهم في أحضان زوجاتهم، ففي هذه المملكة لم يكن أحد يأمن جانب الآخر، وحتى وإن كان هذا الآخر زوجته أم عياله..

انتهى الحفل، وهم الجميع بالمغادرة، لكن الملك استوقف دراكولا..

نعم دراكولا، ففي هذه المملكة يعد دراكولا مواطنا، لكنه ليس كباقي الرعية، هو أحد الكبار بعدما حول مهارته في مص الدماء من مجرد وسيلة للتزود بالطاقة التي تمكنه من العيش إلى حرفة ثم تجارة كبيرة، إذ كان بمقدوره أن يجمع نحو خمسة أطنان يوميا من الدماء التي يستخلصها من عروق وشرايين العامة، فيشرب منها ما يكفيه ثم يقوم ببيع باقي الكمية مع استقطاع النسبة المستحقة للمملكة..

وفقا للاتفاق «الأخوي» الذي اعتمده الملك الأب، قبل أن يسلم الحكم لولده، فإن السيد دراكولا كان يورد للحكومة يوميا طنا من الدماء الطازجة، فور استخلاصه لها من الرعية..

وظل الأمر هكذا لسنوات وسنوات، إلى أن جاء الملك الشاب وقرر أن يغير قوانين اللعبة..

انطفأت الأنوار، وانصرف الناس، ولم يبق سوى الملك ودراكولا، الذي لم يكن له أن يضحك في حضور الحاكم، خشية أن تبرز أنيابه اللامعة.. ولم يكن الملك يخشى رؤية هذه الأنياب، فهو شخصيا يمتلك أنيابا تشبه أنياب المخلوق العجيب الذي يقف أمامه، لكن ليس من الحصافة أن تُظهر شيئا يمتلك الملك مثله وفي حضوره..

قال دراكولا وهو ينحني: مولاي.. طوع أمرك.

رد الملك وهو يربت على كتفه: عزيزي دراكولا.. طيلة السنوات الماضية وأنت مثال للمواطن الصالح، الذي يعرف حق بلاده عليه ويسدده دون تأخر.

فرك دراكولا يديه وهو يسمع كلام مليكه، ويبدو أنه تنبه إلى أن هناك شيئا يدور في ذهن الملك، أو أن هناك قرارا يخص عمله على وشك الإعلان، فقال وابتسامة صفراء تنمو على شفتيه: هذا واجب يا سيدي، لا يمكن أن أغفله.

بابتسامة أكثر اصفرارا، قال الملك: أعلم أعلم.. لكن دعني أنبهك لأمر جلل، فرغم صلاحك إلا أنك إلى اليوم تعمل بشكل غير قانوني..

«أنا يا مولاي»، هكذا أيقن دراكولا أن الملك يدبر له شيئا..

عاد دراكولا إلى بيته بعدما أخبره الملك أنه سيمنحه تصريحا للعمل يمكنه من مص دماء الرعية بشكل قانوني، لكنه لن يكون حرا في التصرف في قطرة دماء واحدة بعد اليوم، إذ إنه بات موظفا لدى حكومة الملك، وتتلخص مهمته في مص الدماء ثم توريدها فورا إلى خزانة الدم العامة، ثم بعدها يحصل هو على سبعة لترات من هذا السائل الأحمر كي يتغذى عليها، إضافة إلى راتب شهري ثابت يتمثل في طن من الدماء الحارة يمكنه أن يبيعها للحكومة مرة أخرى أو أن يصدرها أو يشربها حتى!

في تلك الليلة لم ينم دراكولا، ظل ساهرا حتى الصباح يفكر في ما قاله الملك، لكنه في النهاية اضطر لقبول العرض، فهو يعلم أنه إن رفض ذلك، فلن يكن بمقدوره أن يبقى في المملكة لحظة أخرى، بل إنه ربما كان سيقضي بقية عمره في تابوت خشبي داخل إحدى الزنازين..

بخطوات متثاقلة، كان دراكولا يخرج كل مساء إلى البيوت والشوارع ليمارس عمله، وكان الناس يسلمونه رقابهم طواعية ليحصل منها على حصة معلومة من الدماء كالعادة، لكنهم شعروا أنه ليس دراكولا الذي يعرفونه.. ماذا حدث؟

في الماضي كن دراكولا أحرص مخلوق على حياة الناس، إذ كان يأخذ من دمائهم ما يكفيه دون أن يقتلهم، فهم مصدر دخله، فلا يمكن مثلا لبائع البيض أن يذبح الدجاجة التي تبيض، لكن دراكولا اليوم لا يكترث للأمر، حتى أنه في أول ليلة له بعد الاتفاق خلف ثلاثة قتلى، بعدما مص كل ما في أجسادهم من دماء!

وهكذا مضت الأمور، في حين بدأ دراكولا يشرب إلى جانب دماء الناس بعض المشروبات الأخرى، مثل اللبن وعصير التوت البري والليمون الحلو وماء جوز الهند..

يوما بعد آخر، لاحظ الملك أن حصيلة الدماء التي تدخل خزانة المملكة قليلة للغاية، حتى أنه في بعض الأيام لم يكن الحصاد يزيد على ثلاثة أرباع طن من السائل الأحمر!

شك الملك في أن دراكولا يخدعه، فبدأ في مراقبته بشكل شخصي، فاكتشف أن ذلك المخلوق مصاص الدماء لم يعد يمارس مهنته بحب، كما كان يفعل سابقا.

كذلك اكتشف الملك أن هناك هيكلا مكونا من سبعة وزراء وأحد عشر موظفا ومسئولا بحكومته لهم علاقة مباشرة بتنظيم عمل دراكولا، وأن كل واحد من هؤلاء كان يقتطع لنفسه حصة من الدماء الموردة.

فكر الملك كثيرا قبل أن يصدر قراره، ففي البداية كان على وشك أن يحكم بإعدام كل من تورط في سرقة الدماء قبل توريدها للخزانة العامة، لكنه أحس أن ذلك لن يغير من الأمر شيئا، فعقد العزم على اتخاذ قرار مصيري في الصباح.

بعد شروق الشمس، ذهب دراكولا إلى القصر وهو متأفف إذ لم يكن من هؤلاء الذين يحبون الظهور في وضح النهار، نظرا لطبيعته كمصاص دماء ذائع الصيت..

أمام الملك وقف دراكولا وهو يعتقد أن الحاكم سوف يأمر بقطع رقبته، غير أنه تفاجأ بابتسامة معتادة تبرز على شفاه معتمر التاج، الذي زف إليه البشرى.

الملك: أخي دراكولا.. من اليوم أنت حر، لقد ألغيت قرار توظيفك ومن الآن فصاعدا لك أن تمارس عملك بكل استقلالية، وليس لنا عندك إلا طنا ونص الطن يوميا من الدماء.. ديل يا برنس؟!

دراكولا: بيس يا مان.
Advertisements
الجريدة الرسمية