رئيس التحرير
عصام كامل

هويدا عوض أحمد تكتب: حامل الهم

هويدا عوض
هويدا عوض



أراه في المواصلات شاحب البشرة، مكفهر الوجه.. أراه في الشارع يمشي، لا يعرف أين وجهته.. عيونه مليئة بالحزن.. ملابسه نظيفة جدًّا، ومكوية بعناية، ولكنها قديمة.. لا يرتدي الجديد إلا في المناسبات.. 

أراه على مكتبه في مصلحة حكومية.. في محل، في زقاق، في عطفة.. 

أراه في المشافي.. في المدارس.. في الحقول.. في المصانع.. في كل مكان.. 

إنه حامل الهمِّ، كما أسميته أنا.. إنه الأب المصري الذي تجتاحه كل المواقف.. فيجد نفسه منحني الظهر من كثرة الهموم، ولكنه رافع الرأس.. 

منزل.. طعام وشراب ملابس صيفي وشتوي.. مدارس.. دروس.. علاج ومشافٍ.. 

ثم جامعات وشقق وسيارات وزواج لأبنائه.. إنه في المطحنة.. مطحنة الحياة التي لا تتوقف أبدًا، إلا بعد أن يفارق الحياة، ويستلمها آخرون.. 

الأب المصري الذي ينقضي عمره لأجل سعادة أسرته..

يا الله... 

منذ أن قرر الزواج، وبدأ بتوافد الأولاد، هدية رب العالمين له، وهو يواصل الليل بالنهار ليصل بأولاده إلى بر الأمان.. 

انظر في عيون رجال بني وطني، بكل إعجاب وتقدير، وهم يتحملون الوقوف في الباص بالساعات؛ ليصلوا إلى منازلهم، ليوفروا الجنيهات ليشتروا الفاكهة لأولادهم.. 

أنظر بكل فخر لمن ينام من التعب في ميكروباص ويوقظه من بجانبه؛ لأنه مجهد من عملين في اليوم.. يخرج من عمل إلى عمل، محاولًا بكل ما أوتي من قوة، أن يسعد أسرته ويلبي احتياجاتهم.. 

أنظر إلى ذاك الذي يجمع أصدقاءه، ويقوم بعمل جمعية كبيرة ليزوج ابنه أو ابنته.. 

أنظر بكل تقدير واحترام للأب الذي يؤثر شراء ملابس وأحذية لأولاده وزوجته، وهو لا يرى أهمية أن يشتري جديدًا له..

أنظر بشفقة بالغة للأب المصري الذي زهد الحياة، ومتعها، واكتفى بكوب شاي على القهوة مع أصحابه ليوفر النقود ليخرج ابنه وابنته للمصيف أو فسحة مع أصحابهم.. 

أنظر في تأمل للأب المصري القوى الذي ما زال يذهب إلى الحقل.. الغيط.. وهو قد تعدى الستين، وما زال يزرع ويربي الماشية، ويبيع ويشتري، ولا ينصت لآلام قلبه المتهالك أو ضغطه المرتفع أو كبده الذي تضخم مرضًا. 

أنحني إعجابًا وتقديرًا للأب المصري الذي ضحى، منذ شبابه إلى شيخوخته، بعمره وراحته من أجل أسرته بقلب راضٍ حتى لو كان غير سعيد في عمله أو غير مرتاح في مهنته. 

أنحني إعجابا وأفتخر أني مصرية، وأفتخر بأبي الذي قضى عمره كله مغتربًا ما بين سوريا والعراق والسعودية ليجمع لنا المال، ويترك لنا منزلًا كبيرًا وسترًا من نوائب الدهر.. 

رحمة الله عليك يا أبي؛ فقد أفنيتَ عمرك عملًا وكفاحًا متواصلًا.. 

الأب المصري الذي لا يستسلم أبدًا لمحن أو لفقر أو لقلة حيلة لا.. إنه قوي دائم التفكير.. أن يطور من نفسه ومن عمله ومن أسرته.. 

الأب المصري الذي لا يزال هو مضرب الشهامة والرجولة والحنان والملاذ الآمن لأسرته.. 

بوسطية فكره واعتدال دينه وتوازنه النفسي وانتمائه العميق لوطنه وأرضه، وغيرته على عرضه وشرفه برقي وتحضر.. 

ربى بنتًا سليمة الفكر، أوصلها لأعلى الشهادات وحافظ عليها إلى أن زوَّجها واطمأن عليها.. 

ربى الولد وعلمه وآخاه وصبر عليه وقوَّمه وراقبه وأحاطه برعاية مطلقة، حتى أوقف ابنه على أرض صلبة؛ تعليمًا ووظيفة وزوجة.. 

هذا هو الأب المصري، حامل الهم.. 

لا يريد من الدنيا غير ضحكة، ورضا وراحة أسرته.

الجريدة الرسمية