رئيس التحرير
عصام كامل

ماهر فرغلي الباحث بالشئون الإسلامية: الرئيس السادات وراء تثبيت دعائم وأركان الصوفية في مصر




  • أصحاب الطرق الصوفية دائمًا في يمين الحاكم وتستخدمهم السلطة لضرب أعدائها
  • الحياة الروحية للصوفية تتماشى مع الطبيعة المصرية المستقرة

يبلغ عدد الطرق الصوفية المسجلة في المجلس الأعلى للطرق الصوفية 77 طريقة، تضم ما يقرب من 6 ملايين ما بين مريد ومحب. ولكل طريقة صوفية فرع في القرى والنجوع يتبع إداريًا المركز الرئيسي بالقاهرة أو في أي من المدن الكبيرة بمحافظات أخرى. ويوجد في القاهرة الكبرى 41 طريقة، أشهرها: السادة الرفاعية والمحمدية الشاذلية. وفي الإسكندرية 4 طرق أشهرها: النقشبندية. وهذه الطرق منتشرة في أرجاء مصر، سواء في محافظات الغربية والفيوم والشرقية وكفر الشيخ والصعيد، ومصر العليا التي من أشهرها طريقة "الرحيمية القناوية".

والصوفية.. عالم كبير، له خصوصيته التي تميزه عما سواه من التيارات الدينية الأخرى التي تتخذ من الدين مطية لتحقيق أطماع سياسية والتي أسهمت بشكل مباشر في التضييق عليه ومحاصرته وتشويه صورته وأحيانًا تكفير أتباعه ومريديه. والصوفيون مسالمون يغلبون السلام والمحبة في التعامل، وبعضهم شديدو الزهد، وهم من يطلق عليهم: "الدراويش".

والحركة الصوفية في مصر، قديمة النشأة، فقد كانت البداية والنشأة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وتطورت اتساعًا وانحسارًا، حتى وصلت إلى خواتيم القرن العشرين الميلادى، التي تعتبر الأهم في تاريخها وتحديد مسارها، حيث شهدت خلالها بلورة وتثبيت لهيكلها التنظيمي، وأصبحت أكثر انتشارًا وقبولًا في المجتمع المصري.

والصوفية في مصر طرق ولكل طريقة شيخها، والطريقة تعنى مجموعة الآداب والأخلاق التي يتمسك بها أصحاب هذه الطريقة وأتباعها ويتخذونها طريقا للوصول إلى الله. 

وللطرق الصوفية في مصر مدارس وفرق تأخذ منها مرجعيتها، فيعتبر العصر النبوي هو المرجع الأساسي، ومن ثمَي فإن كل طريقة صوفية تربط أورادها بسند رجال يعيدها إلى أحد الصحابة أو إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بذاته. وبصفة عامة، فإن التصوف المصري يعد أفضل أنواع التصوف المعتدل، ويستمد أصوله من الكتاب والسنة لأن الحياة الروحية تتماشى مع الطبيعة المصرية الهادئة المستقرة، بحسب كثير ممن كتبوا في هذا المجال، سواء من المصريين أو من غيرهم.

وقد ظهرت في القرنين الثالث والرابع الهجريين طرق صوفية منها: الملاتية أو القصاربة، والطيقورية، والخرازية، والحلاجية، والنورية، والجنيدية. وفي القرن الخامس الهجري ظهرت الطريقة الغزالية، نسبة إلى الإمام محمد بن محمد الغزالي. أما الطرق التي ظهرت في القرنين السادس والسابع الهجريين، فكان من أهمها: القادرية، والأكبرية، والرفاعية، والشاذلية، والأحمدية، والبرهامية، والبدوية.

ويمكن القول إن التطور الحقيقي في الصوفية المصرية من مدارسها القديمة إلى الحديثة ارتبط بالتحول الجذري عند الإمام "الغزالي" الذي انقلب فكريًا من مدرسة المتعلمين إلى المدرسة الصوفية الواقعية، وكان كتابه "إحياء علوم الدين" محاولة لتأسيس العلوم الشرعية بصياغة صوفية، ثم بعد حكم الأيوبيين عادت الصوفية لأفكار الفلسفة الميتافيزيقية، وترسخت مبادئ الصوفية وأشعارها الروحانية على يد "محيي الدين بن عربي" الذي قام في كتبه بتذليل الكثير من المعارف والمعاني التي كانت عصية الفهم على إثبات مطابقتها للشرع. وقد حضنت مصر في ذلك الوقت كل المهاجرين إليها من مختلف دول العالم، وقد كونوا مدارسهم الصوفية في جميع أقاليم مصر، فلم توجد مدينة في ذلك الحين وإلا كانت تمثل مهبطًا لشيخ مهاجر إليها يقيم مدرسته الروحية.. "فيتو" تلقى في هذا الحوار الضوء على جانب من تاريخ ونشأة الحركة الصوفية وطبيعتها وتحولاتها وعلاقتها بالسياسة.. حيث قال ماهر فرغلي، الباحث في شئون الحركات الإسلامية، إن الشعب المصري دائمًا وأبدًا مُحب لآل البيت، وبما أن الطرق الصوفية، تتخذ من آل البيت رموزًا لها، لذا وجدت مسلكها سهلًا ويسيرًا بين جميع فئات المصريين، وشهدت انتشارًا واسعًا في مطلع السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي.

وأضاف فرغلي في حوار لـ"فيتو" أنه في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، اهتم بأن يظهر بمظهر الرئيس المؤمن، وكانت خطته السياسية هي التصدي للشيوعيين، وفك حظر الجماعات الدينية مثل الإخوان، لذلك شهدت هذه الفترة توسعا للصوفية وتثبيت دعائمها وأركانها وانتشار بشكل أكثر تنظيمًا لما قبل بين الشعب المصري.

وإلى نص الحوار...

- ما الذي ساعد على انتشار الصوفية في مصر؟
هناك 3 أبعاد مهمة أثرت بشكل مباشر على انتشار الصوفية في مصر، الأول هو النزعة الدينية لدى الشعب المصري، حيث إن المصريين محبون لآل البيت على مر العصور، ومن هنا انطلقت الطرق الصوفية، حيث تتخذ آل البيت رموزًا لها، فوجدت طريقها مُمهدًا بين المصريين، فضلًا عن انتشار ظاهرة الموالد الصوفية ومجالس الذكر، والتي تعد أداة مهمة لجذب محبين جدد، والاحتفال بالمولد النبوي الشريف الذي ساعد كثيرًا على جذب الكثير من المريدين، والاحتفال بموالد التابعين وتابعي التابعين ممن لهم جماهير عريضة تحذو حذوهم وتقتدي بهم.

والبعد الثاني يميل إلى الجانب السياسي بعض الشيء؛ فالصوفية منذ نشأتها في مصر لم تعارض الحاكم على الإطلاق، حيث أدت دورًا كبيرًا في تأييد الحاكم وسياساته في الدولة.

ونذكر أيام اتفاقية كامب ديفيد، كانت الطرق الصوفية تؤيدها قلبًا وقالبًا، بل وكانت تدافع عنها أيضا، والبعد الثالث يتمثل في أن الطرق الصوفية ليس لها أي طموح سياسي، ودائما كما نقول تتخذ "السيف سايد" ملجأ وملاذا، ولا تتبع أي طرق للعنف أو ما شابه.

ولعل البعد الأخير هو السبب الرئيسي في ازدياد مساحة الصوفية في الشارع المصري في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، مقابل دعمه سياسيًا.

- إلى أي مدى أثرت الصوفية في الشخصية والثقافة المصرية؟
كان للطرق الصوفية تأثيرا على الحركة الثقافية، حيث أسهمت بشكل أو بآخر في تكوين فكر وثقافة العديد من المفكرين في مصر مثل الجبرتي ومحمد عبده وعبد الله النديم، وتتلمذوا على أيدي مشايخ الصوفية المنتشرين في ربوع الجمهورية وأشهرهم كانوا في طنطا ودسوق.

ويؤيد العديد من المثقفين في مصر والعالم العربي الاتجاه الذي يؤكد أهمية الدور الذي ينهض به التصوف في تعزيز قيم التسامح ومواجهة التطرف، وباتت التربية الأخلاقية في التصوف ببؤرة اهتمام الدرس النفسي والاجتماعي والديني الذي يتلقاه المجتمع.

كما شارك الصوفيون في خلق تراث أدبي رفيع وواسع الانتشار، واستخدام مبهر للكلمات والمفردات، وكان ذلك في بدايات انتشار الطرق الصوفية في مصر في أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن العشرين، ولكن انتشارها لم يكن بشكل منظم.

وعززت الصوفية من ثقافة "التبرك" بآل البيت، وأصبح مروجي هذه الظاهرة، هم أول المدافعين عن الصوفية ومشايخها، وأغلبهم من البسطاء في الريف وغيرهم ممن يسارعون إلى التبرك بأضرحة الأولياء والصالحين، ويهربون إليها في محاولة منهم إلى التخلص من ضغوطات الحياة، وانضم إلى هؤلاء الفئة مؤخرا بعض من موظفي الدولة ذوي الشأن كالقضاة وغيرهم من المسئولية.

ولعل أيضا ما ساعد على تغلغل الصوفية في الثقافة المصرية، والتأثير في الشخصية المصرية، هو انتشار شيوخها بمعظم ربوع الدولة، فكان يلجأ إليهم الفلاحون والبسطاء للاستشارة في أمور دينهم ولحل مشاكلهم، ففطن الصوفيون إلى ذلك فعمدوا إلى جذب أو يمكن أن نقول "تجنيد" إن صح التعبير، العمال وأصحاب الحرف وضم الكثيرين من المهمشين اجتماعيًا، فكان قديمًا الانتماء إلى الصوفية بدافع الفقر والعوز، ولعل ذلك ما ساعد على انتشار تعاليم الصوفية بطرقها المختلفة واتساع خريطة المساحة الصوفية على أرض مصر، لكن اختلف الحال بشكل كبير في الفترة الحالية، فلم يعد الانتماء للطرق الصوفية مقصورًا على الفقراء، بل تشهد الطرق الصوفية إقبال فئات اجتماعية مختلفة كالأطباء وأساتذة الجامعات والمدرسين والصحفيين ورجال أعمال.

- هل تاريخ العلاقة بين الصوفية والمجتمع المصري يرتبط بقضايا معينة؟
تطور العلاقات بين المصريين بمختلف فئاتهم وأي تنظيم سياسي أو ديني، مرتبط بشكل وثيق بالمصالح المتبادلة بين الطرفين، وما الذي يستطيع كل منهم أن يقدمه للآخر، وتظل هذه العلاقة المحدد الرئيسي في رسم ملامح الخريطة الصوفية في مصر.

وأدى الدور الاجتماعي أو قضية التضامن الاجتماعي للتصوف، دورا بارزًا في جذب العديد من المصريين للصوفية، ففي الموالد تنعم الساحات والزوايا الصوفية بالكثير من المنح والعطايا التي تجعل الجماهير العريضة تلتف حول الصوفية وشيوخها.

القضية الثانية، هي ارتباط الفئة الكادحة بشيوخ الصوفية، حيث كانوا يلجئون إليهم لحل مشاكلهم، والاستشارة في أمور دينهم، ولا مانع من تقديم بعض المساعدات المادية إذا لزم الأمر.

القضية الثالثة، تتمثل في أن الكثير من المصريين تحكمهم الروحانيات ويسعون إلى التقرب إلى الله والاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وآل بيته، دون مصلحة سياسية أو دنيوية.

القضية الرابعة وهي مشاركة الصوفية للمصريين في التكافل الاجتماعي، وتعاون المحبين بالدعم المادي، وتنظيم مشايخ الساحات الصوفية لجلسات حل الخلافات الثأرية، مما زاد من قربهم إلى الناس.

- لماذا تتعدد الطرق الصوفية، وما وجه الاختلاف والسمات المشتركة بينهم؟
هناك صراع غير معلن بين مشايخ الطرق الصوفية، وكل منهم يريد أن يستأثر بإنجازات المرحلة على مستوى الصوفية، فضلًا عن وجود بعض القبليات والعصبيات داخل الطرق، وحديثًا اتجاه بعض الطرق إلى لعب دور سياسي في المجتمع المصري، وتأسيسها لأحزاب سياسية، إلا أن هذه التجربة سيكون مصيرها الفشل بدليل ابتعاد الكثير من المريدين والمحبين عن هذه الطرق التي سلكت طريقا سياسيا، لأنه في ما زال في أذهانهم التجربة الإخوانية الفاشلة.

ووجه الارتباط بين الطرق الصوفية يعتبر في اتباع أسلوب الترغيب والترهيب، وكذلك المأثورات، وعدم ارتباطهم بالعمل السياسي، فاستخدام السلطة لأصحاب الطرق الصوفية موجود منذ القدم، ودائمًا هم في يمين الحاكم باستمرار وتستخدمهم السلطة لضرب أعدائها، كما أن الحياة الروحية للصوفية تتماشى مع الطبيعة المصرية المستقرة.

- هل يمكن اعتبار الظاهرة الصوفية حركة نفسية نتيجة تفاعلات اجتماعية؟
كل ما يطرأ على المجتمع من قضايا أو كيانات جديدة سواء سياسية أو دينية أو غيرها، هي نتيجة تفاعلات اجتماعية قد تكون نفسية أو غيرها، إلا أن الشيء الأساسي الذي يربطها جميعًا أنها خارجة من رحم المجتمع، وقد يلقى ذلك قبول الدولة فتدعمه وتؤيده، أو تعارضه الدولة فتوأده في مهده لاعتبارات قد تكون سياسية أو أمنية.

ومرت الصوفية بمراحل عديدة منذ نشأتها وحتى بداية ظهورها بشكل تنظيمي وازدهارها في مصر، ولعل ظهورها في كنف الدولة وتحت رعايتها أعطى لها ثقل اجتماعي بين المصريين، فدعمتها الدولة وتم السماح للشاشات التليفزيونية بنقل احتفالاتهم، مما كان له أثرًا كبيرًا في جذب العديد من المواطنين للصوفية.

سياسة الصوفية المنفتحة على الجميع أيضًا ساعدتها في جذب شرائح جديدة من المصريين، حيث اطمئنوا لها، فضلًا عن سلميتها الدائمة ودعمها للاستقرار واستتباب الأمن ما وافق هوى ومبتغي جميع المصريين، ودورها في إنشاء مراكز لتحفيظ القرآن الكريم، كان الطريق لجذب فئة النشء.

- يُتهم مشايخ الصوفية بأنهم ليسوا على درجة كبيرة من العلم.. هل ذلك صحيح؟
إن أئمة الصوفية قديمًا كانوا من أصحاب العلم ولهم تراث كبير وجانب كبير من التراث الإسلامي كتبه الصوفيون، بينما الآن ضعف مستواهم العلمي، ووهنت حلقات العلم، ولم تعد بقوة بقوة الحلقات التي بدأها مؤسسو الصوفية.

الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"..
الجريدة الرسمية