رئيس التحرير
عصام كامل

المخبأ


يمتد الطريق أمامى ممهدا منبسطا يحوطه الهدوء من الناحيتين.. تسلط أشعة الشمس حرارتها على عينى وكأنها تتحدانى حتى أغمضهما، واضطر إلى ارتداء نظارتى الشمسية.. أنظر في ساعتى ويدى على عجلة القيادة..


الساعة تشير إلى الثامنة صباحا، ما زال الوقت مبكرا وانا في طريق عودتى من الغردقة إلى القاهرة بعد اختفائي المفاجئ عن الجميع، في مكانى الخاص جدا والمفضل الذي لا يعرفه أحد حتى أقرب المقربين.. أشتريت هذا المخبأ كما أحب أن أطلق عليه منذ ثلاث سنوات..

عندما فشلت في زواجى الثانى.. وفشلت في المرتين في أن أكون أما.. أقطع كل هذه المسافة لأكون مع نفسى، أخلع كل ما بى من هموم ووجوه أرتديها لزوم الحياة الزائفة التي نعيشها.. حتى شكلى الذي يعرفنى به كل الناس أغيره.. أتخلص من غطاء رأسى وأطلق خصلات شعرى في الهواء تتطاير كيفما شاءت، ارتدى نظارتى الشمسية التي اخترتها بعناية لتعبر عن مشاعرى هنا في مخبأى..

فالنظارة السوداء ذات الإطار الأحمر تناسب حالتى المتمردة..

لم أتعود على الفساتين الا في المناسبات وحفلات الزفاف.. لكننى هنا لا أرتدى إلا الفساتين ذات الألوان المبهجة الفضفاضة لتمنحنى إحساسا بالحرية التي أفتقدها.. في مكتبى في البنك الذي أعمل به.. وفى البيت مع والدى ووالدتى وإخوتى، فكل حركاتى وسكناتى لابد أن تكون بميزان هكذا علمتنى أمى..

أنا الآن لا أعرف إلا الانطلاق.. التحرر من كل الأفكار الصدئة.. كنت أحلم بأن أصبح عازفة كمان.. ولأن عائلتى لا تعترف الا بمهن ثابتة لا ينبغى الخروج عن إطارها.. فاستسلمت لاننى كنت صغيرة.. أقنعت نفسى بذلك أو ربما تركت لأمى مهمة إقناعي فهى التي تعرف مصلحتى جيدا؟

عندما تزوجت زوجى الأول كان أبن أحد أصدقاء والدى، فمن غير المسموح الموافقة على شخص لا نعرف تاريخه حتى سابع جد..
لم يستمر زواجى طويلا فقد اكتشفت أنه يرفض الإنجاب لسبب لا أعرفه.. وربما يكون ليست لديه القدرة على الإنجاب فصصمت والدتى على الطلاق..

رغم أننى كنت مؤيدة لفكرته في تأجيل الأطفال.. وفى الوقت الذي شعرت فيه بحفنة من المشاعر تجاهه.. تم الانفصال بإصرار من أمى نفس الإصرار على الزواج..

انزويت جانبا وفضلت الوحدة وأنغمست في عملى مما اتاح لى السفر وتغيير أجواء حياتى..

تعرفت عليه في أحد رحلاتى كان مصريا مقيم في أنجلترا، تلاقت قلوبنا وتعاهدنا على الزواج وكنا نحلم سويا بالبيت الجميل والأولاد.. تقدم لخطبتى فرحبت أمى بشدة بعد أن قابلته ووجدتها تسارع في إجراءات الزواج، رغم اننى كنت سأسافر وأعيش بعيدا عنها.

كم كان جميلا أن تتزوج ممن تحب، عشت أجمل أيام حياتى معه جعلنى أنسى ما عانيته من حرمان في بيت أمى.. أخذنا عهدا على أنفسنا التفانى في سعادة الآخر، مر عام كامل ونحن في منتهى السعادة، رغم اختلاف طباعنا وبيئتنا، إلا أن العهد كان أقوى من كل الأختلافات..

حتى تسرب إلى شعور بالقلق والخوف، وأحسست بأن هذا الشعور قد أصاب زوجى فصارحته بما يدور داخلى، فابتسم واتفقنا أن نذهب للطبيب ونقطع الشك باليقين، فربما نحتاج إلى بعض النصائح لكى يكون لدينا طفل يملأ حياتنا مزيدا من السعادة، كان وقع الحقيقة مدويا.. جارحا.. لم أتحمله، فسقطت مغشيا على، وأفقت وهو بجوارى يهون على كلام الطبيب بأننى أعانى من عيب خلقى يستحيل معه الإنجاب، وأن نسبة نجاح عمليات التلقيح الصناعى بالنسبة لحالتى لا تزيد عن 5 في المائة..

حاولنا مرة ومرات وأنفقنا كل مدخراتنا وفى كل مرة كانت لهفته على الأطفال تزداد ولا تهدأ، شعرت بتغيره.. حزنه الذي لا يفارق وجهه فاستاذنته العودة إلى مصر، فوافق ولم يناقش!!

أرسلت له رسالة تحله من كل وعد.. رجوته أن يتركنى لقدرى.. فلم يفكر كثيرا..

وانفرط عقد قلبى فقبضت على ما تبقى منه، ومارست طقوس وحدتى أياما وليالى وشهورا، ووجدت أنه لا مفر من استمرار الحياة..

وقتها لمعت في ذهنى فكرة (المخبأ) الذي يمنحنى الخصوصية والحرية ويمدنى بالطاقة حتى أستطيع استكمال حياتى.. فإذا كانت ذكرياتى مؤلمة فالقادم لن يكون أكثر ألما..

لا أستطيع وصف مايملأ جسدى وعقلى وكيانى من طاقة إيجابية بعيدا عن كل من أعرفه من بشر..

في أحد الأيام وأنا أمشى في سوق الغردقة وجدته يبكى وحيدا، كم حركت براءته كل سنتمتر في قلبى، وضخت كل دماء العالم في شرايينى فملئتنى حيوية، سألته سبب بكائه فأجاب بتلقائية الأطفال وسذاجتها (الفلوس اللى معايا وقعت منى) لم أتمالك نفسى واخذته في حضنى، وذبت في براءته، وبادلته دموع بدموع، حتى أنه توقف عن البكاء، وظل يربت على كتفى، لا يعرف ماذا يفعل؟

أخرجت كل ما في جيبى من نقود وأعطيتهم له.. فرفض وقال لى (سأخذ الخمسة جنيهات التي فقدتها فقط، وسوف أعيديها إليك قريبا). 

لم أتركه يرحل ورافقته حتى البيت الذي يسكنه، فاذا به طفل يتيم فقد والديه في حادث، ويسكن هو وكثير مثله في دار للأيتام.. لأول مرة في حياتى أدخل مكان كهذا.. بساطة الأشياء ودفء الاستقبال من أناس لا أعرفهم، ولا يعرفون من أنا؟ ولا ماذا أعمل؟ لم يسألونى عن عمرى؟ ولا حالتى الاجتماعية؟ كل هذا منحنى طاقة إيجابية جعلتنى أتمسك بحياتى الجديدة التي أحببت كل تفاصيلها.. وتحول مخبأى إلى إقامتى الدائمة..

تركت القاهرة بكل ذكرياتها الحلوة والمرة وقدمت طلبا لأنتقل لفرع البنك في الغردقة.. استقبلت عالمى الجديد بروح مختلفة لا يشوبها فتات المشاعر الزائفة، ولم أعد في حاجة إلا أن أقول ما أحس به، ولا أفعل إلا ما يجعلنى سعيدة.. أخيرا، وجدت مكانى بين الأطفال الذين يحتاجون لحنان أم واهتمامها.. وكانوا لى عوضا عن كل أحساس فقدته..
الجريدة الرسمية