رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

رفاعة.. وعقارب الخماسين!


لا زالت تطاردني مخاوف الطفولة التي عشتها في جزيرتى على شاطئ النهر. كما لازالت تشدني إليها أحاديث العجائز في نهارها الشتائى الدافئ، وحول "مَنقَد" النار بعد صلاة العشاء! لم أنس أبدا الشيخ "رفاعة" صائد الثعابين والعقارب، ومنقذ القرية من حروبها الشعواء التي تشنها على جزيرتنا في شهر أمشير من كل عام!


حيث تأتى رياح الخماسين حُبلى بأنواع غريبة من العقارب، كانت تصفها أمى بأنها "عمياء"، ولا ينتهى موسم الخماسين دون أن يكون لها ضحايا! لدرجة أننا كنا حين تحل علينا رياح الخماسين نقول: لقد جاءت الخماسين تحمل على أكتافها صديقات عزرائيل!..

كل أبناء جزيرتنا يخافون رياح الخماسين إلا الشيخ "رفاعة" ذلك الرجل الحكيم الصامت الذي من الصعب أن تحدد له ملمحًا بعمامته المغايرة لعمامات سائر أبناء القرية. إذ أنها أكبر حجما وأكثر قتامة. كان يلبسها صيفا وشتاء، وكأنه كائن غريب، لا يحتَرُ ولا يبرد!..

وكان يحمل بيده معطفا من زعف النخيل أو من أعواد الحلف المسبوكة وعليه غطاء من نفس الصنف تقريبا مخصص لتخزين الثعابين ومعه أيضا جراب من الجلد تقريبا يحمل فيه العقارب التي يصيدها.. وكأنه يخاف على صيده من الألم!..

كان "رفاعة" يجوب شوارع القرى، وبمجرد أن يمر من أمام بيوت البسطاء. تستوقه نداءات الثعابين بالداخل!، فيطرق الباب طرقا خفيفًا، ويخبر صاحب الدار بأن في بيته ثعبانا، ربما غير "مؤذٍ" وبمجرد أن يدخل "رفاعة" البيت ويطلق "صفارته" المعتادة، ويتمتم بصوته المنخفض كلمات لم نفهمها؛ تبادله الثعابين نفس الصفارة!.. ثم ينادى عليها "رفاعة" بصوت وكلمات واضحة معطيًا إياها الأمان فيقول "تعالى ببركة سيدك "الرفاعي الكبير".. وهنا يظهر الثعبان فيقترب منه "رفاعة" بالبسملة ويمسكه من رأسه ويدعونا لمشاهدته قبل أن يضعه في الجراب!!

وكأن الثعابين نفسها تفتش عن "الأمان" كـ"البشر". حتى وإن وجدته في جراب حاوى!..

قد كانت الخماسين موسمًا للحصاد لدى "رفاعة". فكان يأتي لزيارتنا مرتين في العام. واحدة في الصيف والثانية في الخريف.. كان يأتى في الخريف لينقذ قريتنا من ثورة العقارب التي تحملها "رياح الخماسين" إلى قريتنا.. مستهدفة مساكن الفقراء "غير المرتبة" وكأنها تتجنب عن عمدٍ المساس بأطفال الأغنياء، أو حتى الاقتراب من بيوتهم.. وكنت دائمًا أتسأل عن سِرِ حالة العشق التي تربط العقارب بأجساد البسطاء؟!

أما في الصيف - وحين تشتد حرارته- تتنفس الثعابين بصوت مرتفع.. وتبحث عن الأماكن اللينة في بيوت الفقراء.. وتجد الإحساس بـ"الأمان" تحت أكوام القش، وبالقرب من أفراخ الحمام.. وكأنها تترصد قوت الفقراء المعجون بعرق الكَدِ ومرارة الحرمان. تاركة أبراج الحمام التي تعتلى مساكن الأغنياء.. وكنت أتساءل أيضا لماذا تتربص الثعابين بقوت الفقراء؟! ولماذا يَسلم الأغنياء دائمًا من عداء الثعابين؟!

كلها أسئلة وأنا طفل حملتها في نفسي.. كنت أنتظر اللحظة التي يتكلم فيها "رفاعة" حتى أساله..

وذات يوم رأيته يسير وحده حاملًا جرابه على كتفه. كان يغني بصوت يشبه صوت دراويش الحضرة.. ناديته بحرصٍ شديد.. فكنا جميعنا نشعر بأن جسد "رفاعة" معبأ بالثعابين والعقارب.. ولعل هذا "سر هيبتهِ" التي في الأساس مصدرها الذي تَكَشَّفَ لنا في الكِبّر بأنه كان عن جهل!

من الذي علمك صيد الثعابين يا رفاعة! قال "أبى" وماذا ورثت عن أبيك يا رجل ؟!. قال": "الحَرف" الذي به أعيش بينكم رغم أنني غريب.. والذي به تهابونى رغم أننى بلا سلطة أو مال.. فبالحرف تتحرر العقول من الجهل.. وبالحرف تتحرر الشعوب من قيد العبودية.. وبالحرف تتقدم الأمم، وبدونه تظل رهينة للفقر والمرض.. الحرف يا عزيزى وما أدراك ما الحرف!

وقفتُ أمامه في دهشةِ لم أعرفها من قبل.. رأيت "رفاعة" وكأننى أراه لأول مرة. بدت ملامحه تتشكل في عينى.. حتى سِنَه قد بدى لي.. من أنت يا رفاعة؟!.. ولماذا سخَّرت الحرف لصيد الثعابين والعقارب؟.. ضحك "رفاعة" ضحكة الواثق بنفسه وقال: أنا لست صائدا للثعابين! أنا مُنِقُذهم!..

قلت له مِن مَن؟

قال: أنقذ الثعابين من العقارب..

قلت له: إذًا أنت تُحب الثعابين وأنا أكرهها!..

قال: إذا أنت تكره الثعابين التي فقيرة مثلك!.. الثعابين يا عزيزى كفقراء القرية.. لا تعتدي أبدا على أحد.. تتظاهر بالهدوء والسكينة، وفى جوفها "السُم" الذي لا يظهر إلا حين تغضب.. ولا تغضب إلا حين تُقهّر.. لكنها لا تنقض العهد.. ولا تخون.. ولا تنسى ثأرها!..

وماذا عن عقارب الخماسين يا رفاعة؟

قال: لا تختلف كثيرا عن أغنياء القرية!.. فعادة ما تأتى غريبة وعادة ما تأتى متطفلة.. وعادة ما تقصد مساكن البسطاء والضعفاء.. لا عهد لها ولا حبيب. حين تجوع تأكل أقرب ما يكون منها.. ليس لها ماضٍ ولا مستقبل!.. حررت أجسادها من العاطفة.. الكائن الوحيد الذي أول طعامه أمه. وأول طعام الأم بعد الحَملِ الذكر!..

فقلت له: يبدو أن هذه العقارب من ذوات " كفران العشيرة "!.. ما الذي تريدني أن أتعلمه منك يا "رفاعة"؟

قال: الحرف..

وما الذي الذي تريد أن تعطنيه يا رجل؟

قال: العهد!!
مرت سنوات عديدة فارقت فيها مرحلة الطفولة. وظل "العهد" الذي دعانى إليه "رفاعة" حاضرا.. لكننى كنت في حَيرة.. كيف أعطى العهد لثعبان!؟! وكيف أدخل بيت "رفاعة" الذي لا تسكنه سوى الثعابين والعقارب؟!

لكن "فضولى" كان دائما أقوى من غريزتى الخائفة.. وكان دائما يسبقنى إلى بيت "رفاعة". ولم يكف حتى دفعنى لزيارة "رفاعة" الذي أعياه المرض.. وحين دخلت عليه وكان ملقيا على "حَصِيرٍ صنع من "الحَلف" على مخدة جافة من ليف النخيل.. وحين اقتربت منه أمسك بيدى ونظر إلى قائلًا: لا تخف من الثعابين.. ثم أشار بإصبعه إلى كتاب قديم جدًا وقال: العهد! هذا ما ورثه عن أبى! هو لك! فلا تدعه يرحل معى!
مات رفاعة! وحرق الفلاحون "عِشتَّه" خوفًا من الثعابين!..
Sopicce2@yahoo.com
Advertisements
الجريدة الرسمية