رئيس التحرير
عصام كامل

أين أمومتي!


خلق الله بداخل كل أنثى إحساسا فطريا بأن تكون أما، وبذر في أعماقها رغبة كامنة في أن يكون لها ابن أو "ابنة"، فتتجسد تلك الرغبة منذ صغرها في حبها لاقتناء الألعاب التي تشبع فطرتها بأن تكون أما، وإن كانت طفلة تحتاج لرعاية والدتها، فنجدها لا تلعب بدميتها "عروسة" بقدر ما تعاملها كابنتها الصغيرة التي تعتني بها، تطعمها، تمشطها، تغير لها ملابسها، تدثرها في أحضانها لتشعر تلك الدمية بالحنان والدفء، فتشبع غريزة الأمومة بداخلها دون إدراك منها أو قصد.


الأمومة.. هي تلك العلاقة الفريدة بين الأم وطفلتها "طفلها"، وإن وصفنا الأمومة فهي رباط فطري يخلق بداخل الأنثى منذ ولادتها، وتبدأ أمومتها في الظهور في تصرفاتها منذ طفولتها مرورا بإنجابها وحتى نهاية عمرها، تظل تلك المشاعر السامية بكل ما فيها من حب غير مشروط، وعطاء بلا حدود، وحنان لا يوصف، ورعاية بلا كلل، وصبر بلا تذمر، بداخلها مهما تقدمت في العمر.

وحين نبدأ رصد رحلة الأمومة الفعلية في حياة المرأة، نجد تكونا فطريا لمشاعر حب وحنان لجنينها الذي نمى في أحشائها وإن لم تره بعد، فارتبطت دقات قلبها بنبضات ذلك الجنين بداخلها، وتطعمه بخلاصة دمها ليحيا، وتحتوي ضعفه بين جدران رحمها، وحين تنجبه، تغذيه بلبنها، وتسكنه بين أحضانها، ويسهر قلبها قبل عيناها لرعايته وخوفا عليه.

تلك الأم، بحب تفانت في العطاء لأطفالها، فقدمت الرعاية والاهتمام بكل صغيرة وكبيرة تخصهم، ولم تبخل يوما عليهم بجهدها أو صحتها أو حتى عمرها، فقدمتهم على نفسها، فحين تطعمهم تشعر هي بالشبع، وحين تدرسهم وينجحون تشعر هي بالنجاح، وحين يمرضون تشعر هي بالوجع، وحين يتقلدون مواقعهم في العمل تشعر هي بالفخر والإنجاز، وحين يسعدون في حياتهم الشخصية تشعر هي برضا الله عليها.

تسجد لله وتدعو لهم، وقد تنسى أن تدعو لنفسها، ترجو الله رضاه عليهم، وتتمنى لهم الخير في كل خطاويهم، يسعدها فرحهم، ويؤلمها وخز الحياة والتجارب لهم.

تتشارك وتتشابك يوميات الأم بيوميات أولادها الصغار في كل شيء، الطعام والكلام، الحب والحنان، الخوف والألم، اللعب والدراسة، فتتعلم معهم كيف تصبح أما بحكمة، فتكتسب فضيلة الصبر، وتعرف أهمية الأمل، وتتعود على انتظار جني ثمرة ما بذرته فيهم من إيمان وخلق وعلم وتربية.

وبالتقدم الحتمي للحياة يكبر الصغار، ويصبحون رجال وسيدات، لهم حياتهم الشخصية، وعالمهم المنفصل عن عالمها، وينشغلون عنها بمتطلبات الحياة، من عمل، سفر، أصدقاء، أحباب، زواج.. إلخ.

فتبدأ الأم تبحث عن دفء ذلك القرب الذي كان بينها وبين أبنائها، تفتقدهم، فتشعر بالغربة، أين ذهب صغاري!؟ أين تلك الليالي التي كنا فيها معا ننام ومعا نصحو، معا نأكل ومعا ندرس، معا نسافر ومعا نحلم بالغد، معا فقط نشعر بالسكينة! أين تلك المشاركة اليومية بما حدث لهم في المدرسة، وأين احتياجهم لي في الدراسة وانتظار نتيجة الامتحانات!

أين تلك الأمور الشخصية التي كانوا يسارعون لرميها بين راحتي، ليشعروا بالراحة من ثقل عبئها عليهم من أسرار بريئة وتجارب مضحكة كانت أو حزينة، تظل تجارب نقية كنقاء قلوبهم الغضة، وأرواحهم النقية.

أين سؤالهم لي عن كل كبيرة وصغيرة تواجههم، وكيف كان أمنهم الوحيد في محيطي! ألا يفتقدون احتوائي، ألا يشتاقون لأن يشعروا بحب قلبي الذي لن يجدوا على الأرض مخلوقا سيحبهم بقدر حبي لهم!

ألا يفتقدون حناني ورعايتي، ألا يشتاقون لقربي، وأنا من أشعر بألم الحنين لهم حينما لا يكونون في حضني أو ليسوا أمام عيني.
أسعد لهم، حين يسافرون للعمل أو للإجازة، ألمس السحاب بيدي حين يرتبطون بعلاقة حب أو صداقة، انتظرهم الليالي لأطمئن على سلامتهم، أبكي لحزنهم، ويملؤن دنياي هناء بسعادتهم.

ولكن.. كيف استطاعوا أن يكتفوا بمشاركة يومياتهم بأحداثها وتفاصيلها مع أحبائهم وأصدقائهم بدلا مني، وكأنهم يأخذون من نصيبي في علاقتي بهم لغيري، وكأنني أصبحت ماضيا والآخرون مستقبلهم!

ويأتي يوم عيد الأم لأتذكر كيف كان صغاري يغلقون عليهم باب غرفتهم أياما وليالي ليتشاوروا على هدية تسعدني، وكيف يصنعون كارت معايدة مليء بالحب والحنان بكلمات معدودة، فمنهم من يلون الكارت الذي صنعوه بأيديهم، ومنهم من يكتب بخط منمق، ومنهم من يرسم القلوب أو يرسمني ويرسم بجانبي طفل يعبر عنهم، وببرائة الأطفال يتسلل أحدهم ليفشي سر هديتهم لي، ويسألني عن أي شيء أتمنى أن يشتروه لي ويخيرني، ويذهب مسرعا لهم ليقول لهم إنه يعرف ما أحب من الهدايا.

فيضحكون ويتوعدونه لأنه أفشى خططهم الغامضة لي، وهم يريدونها هدية مفاجئة لي لا أتوقعها، ويقومون بعد نقودهم ولا يترددوا في دفع كل ما ادخروه طوال عام، فقط لإسعادي، لا يوقنون أنهم هم سعادتي بلا منازع.

ويكبرون ويأتي عيد الأم بمذاق مختلف، فهناك من يمنعه عمله من التواجد بقربي في هذا اليوم، وهناك من يفكر منفردا في هديته، وهناك من يبحث عن مفاجأة خاصة به، وأفتقد صوت ضحكاتهم في الماضي حين يقترح أحدهم هدية لا يستطيعون شرائها لغلائها أو أنها تحتاج من يوصلهم لشرائها، معلقين "إحنا صغيرين يا بنتي مش هنقدر نروح نشتري لها الهدية دي عاوزه ناس كبار"، أو قهقهاتهم من اقتراح أحدهم بشراء هدية هو يريدها كلعبة مثلا".

سنة الحياة تأخذهم من حضن قلبي، تؤلم أمومتي، تؤلم قلبي، ولكنها بشكل آخر تسعدني لسعادتهم. وأعود في كل ليلة لذكرياتي معهم، أبحث في ثناياها عن أمومتي، عن سعادتي، عن صغاري.
يا الله كم اشتقت لهم.
الجريدة الرسمية