رئيس التحرير
عصام كامل

عاصفة الموت والحياة!


وكان هناك في أحد أزقة الحى الغربى الفقير من تلك البلدة الصاخبة، بيت مكون من ثلاثة طوابق، يسكن في إحداها فنان تشكيلى عجوز بلغ من العمر عتيا، ووهن عظمه واشتعل رأسه شيبا، ولكن قلبه كان ما زال يانعا نضرا نابضا بحب الآخرين، وحدث ذات مساء أن سكن معه في نفس المنزل فتاتان من بلدات مختلفة جمعهن القدر وحب الفن أيضا في نفس البيت الفقير، وذات مساء هبت عاصفة ثلجية قاتلة، أصابت الفتاة الصغيرة بالتهاب رئوى حاد أوشك أن يقضى عليها!


أوراق العمر تتساقط!

أمام شرفة الفتاة الصغيرة كانت هناك شجرة مورقة تتعلق كثيرا برؤيتها ونضارتها، ولكن يبدو أن الشجرة أيضا تأثرت بمرض الفتاة الصغيرة المحبة للجمال بالفطرة، فبدأت هي الأخرى في الذبول والانكسار والتساقط، وكأنها تنهى حياتها رويدا رويدا كما تنتهى حياة عشقتها بنفس الوتيرة، وبنفس الألم!

وكلما دخلت الصديقة الأكبر لتطمئن رفيقتها بالأمل في الشفاء، وجدت روحها ذابلة وبائسة تماما كشجرتها الرافضة المستسلمة لموت حتمى قادم، يدخل العجوز الطيب محاولا منحها بعض الأمل فلا يجد إلا يأسا وقنوطا من هذه الدنيا التي ضاقت بوجودها الرقيق عليها فتقول له (انظر يا جدى الطيب، إن هذه الشجرة تموت معى، انظر إلى أوراقها، إنها تتساقط معلنة قرب انتهاء رحلتى القصيرة في هذه الدنيا الضغينة.. انظر يبقى أقل القليل من أوراق حياتى)! 

عاصفة الموت والنجاة!

وفى نفس الليلة، هبت رياح عاتية أسقطت ما تبقى من أوراق الشجرة، وحاولت الرفيقة الكبرى إخفاء المنظر عن رفيقتها المريضة والتي ستموت حتما مع تساقط آخر أوراق شجرتها، وفى الصباح أسرعت الفتاة المريضة إلى النافذة لترى ما حدث لآخر أوراق عمرها القصير وكانت متيقنة من سقوطها وسقوط أي أمل للحياة معها..

ولكن تحدث المفاجأة، لأن الشجرة تماسكت واحتفظت بورقة ناضرة وحيدة لكنها شديدة الرونق والجمال والتمسك بالحياة، أو هكذا كانت تبدو من نافذة الفتاة المريضة، والتي تخيلتها ورقة طبيعية وليست رسما من الجد الطيب، الفنان الذي قضى ليلته ساهرا في أجواء مهلكة لكى يرسم الأمل ويمنح الفتاة المريضة أملا في الشفاء حتى وإن كان مصطنعا.. وتدب روح الأمل والتشبث بالحياة في في الفتاة وتجرى لرفيقتها وتحتضنها وتخبرها بأنها ستعيش وتقهر المرض لأن ورقة عمرها قهرت كل الرياح والثلوج وتمسكت بالحياة..

موت!
خرجت الفتاة الكبرى للنافذة وأدركت أن الشجرة تساقطت كل أوراقها، وأن تلك الورقة المباركة من صنع يد الجد الطيب مانح الأمل والحب والحياة للآخرين، وأكدت حديث رفيقتا بأنه حتما ستعيش وتقهر كل آلامها مثل شجرة عمرها.. وفى خفة وسرعة ذهبت الرفيقة الكبرى لتشكر الجد الكريم والفنان الرحيم في غرفته البسيطة، فإذا به راقدا في سلام أبدى تاركا الحياة لغيره!

تنتهى هنا قصة الكاتب الأمريكى (أو هنرى) والتي أعدت صياغتها بتصرف لا يخل بالأصل، ولكن مصاعب الحياة وبؤسها وقسوتها لم تنته، وحاجتنا للجد الطيب الذي يمنح الحياة للآخرين ولا يستأثر بها لنفسه لا نتهى أيضا، ولكن يبدو أن الجد متغافل عنا هذا الأيام ويظن أنه، هو فقط سيخلد أبد الدهر، لذا فهو يضن بالأمل والحياة ولا يبشر بهما مثل جدنا الطيب في رائعة الكاتب الأمريكى الورقة الأخيرة!
Fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية