رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

يؤتي الحكمة من يشاء


الحكمة عطاء رباني وهبة ومنحة إلهية فهي لا تباع ولا تشترى ولا تكتسب بالتعلم. يقول سبحانه: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا".. انظر معي عزيزي القارئ إلى حكمة وعلم وفهم هذا الصبي ولا حرج على فضل الله تعالى، خرج الحجاج بن يوسف الثقفي ذات يوم للصيّد فرأى تسعة كلاب إلى جانب صبي صغير السن عمره نحو عشر سنوات وله ذوائب. فقال له الحجاج: ماذا تفعل هنا أيها الغلام؟


فرفع الصبي طرفه إليه.. وقال له: يا حامل الأخبار لقد نظرت إلىّ بعين الاحتقار، وكلَّمتني بالافتخار، وكلامك كلام جبار، وعقلك عقل بغال.

فقال الحجاج له: أما عرفتني؟

فقال الغلام: عرفتك بسواد وجهك، لأنك أتيت بالكلام قبل السَّلام.

فقال الحجاج: ويلك، أنا الحجاج بن يوسف.

فقال الغلام: لا قرّب الله دارك، ولا مزارك، فما أكثر كلامك، وأقل إكرامك.

فما أتم كلامه إلاَّ والجيوش حلّقت عليه من كل جانب فأمرهم الحجاج أن يحملوه إلى قصره. فجلس في مجلسه والناس حوله جالسون، ومن هيبته مطرقون، وهو بينهم كالأسد، ثم طلب إحضار الغلام، فلما مثُل بين يديه، رفع الغلام رأسه وأدار نظره، فرأى بناء القصر عاليًا، ومزينًا بالنقوش والفسيفساء وهو في غاية الإبداع والإتقان.

فقال الغلام قوله تعالى: {أتبنونَ بكلِّ ريْعٍ آيةً تعبَثون وتتَّخذونَ مصانِعَ لعلَّكم تخلُدون وإذا بطشتُم بطشتُم جبَّارين}.

فاستوى الحجاج جالسًا وكان مُتكئًا، وقال: هل حفظت القرآن؟

فقال الغلام: هل القرآن هارب مني حتى أحفظه؟

فسأله الحجاج: هل جمعت القرآن؟

فقال الغلام: وهل هو متفرِّق حتى أجمعه؟

فقال له الحجاج: أما فهمت سؤالي؟

فأجابه الغلام: ينبغي لك أن تقولَ هل قرأت القرآن وفهمت ما فيه؟

فقال الحجاج: أخبرني عمّن خُلِقَ من الهواء؟ ومن حُفِظَ بالهواء؟ ومن هَلِكَ بالهواء؟

فقال الغلام: الذي خُلِقَ من الهواء سيدنا عيسى عليه السلام، والذي حُفِظ َبالهواء سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام، وأما الذي هَلَكَ بالهواء فهم قوم هود.

فقال الحجاج: فأخبرني عمن خُلِقَ من الخشب؟ والذي حُفظ بالخشب؟ والذي هلك بالخشب؟

فقال الغلام: الذي خُلِقَ من الخشب هي الحية خُلِقت من عصا موسى، والذي حُفِظَ بالخشب نوح عليه السلام، والذي هلك بالخشب زكريا عليه السلام.

فقال الحجاج: فأخبرني عمَّن خُلق من الماء؟ ومن نجا من الماء؟ ومن هلك بالماء؟

فقال الغلام: الذي خُلق من الماء فهو أبونا آدم عليه السلام، والذي نجا من الماء موسى عليه السلام، والذي هلك بالماء فرعون.

فقال الحجاج: فأخبرني عمَّن خُلق من النار؟ ومن حُفظ من النار؟

فقال الغلام: الذي خُلق من النار إبليس، والذي نجا من النار إبراهيم عليه السلام.

فقال الحجاج: فأخبرني عن العقل والإيمان والحياء والسخاء والشجاعة والكرم والشهوة؟

فقال الغلام: إنَّ الله قَسَّمَ.. العقل عشرة أقسام: جعل تسعة في الرجال وواحدًا في النساء.. الإيمان عشرة أقسام: تسعة في اليمن وواحدًا في بقية الدنيا.. الحياء عشرة أقسام: تسعة في النساء وواحدًا في الرجال.. السخاء عشرة أقسام: تسعة في الرجال وواحدًا في النساء.. الشجاعة والكرم عشرة أقسام: تسعة في العرب وواحدًا في بقية العالم.. والشهوة عشرة أقسام: تسعة في النساء وواحدًا في الرجال.

فقال الحجاج: فأخبرني عن أقرب شيء إليك؟

فقال الغلام: الآخرة.

قال الحجاج: سبحان الله يؤتي الحكمة من يشاء من عباده، ما رأيت صبيًا أتاهُ الله العلم والعقل والذكاء مثل هذا الغلام.

ثم قال الحجاج: فأخبرني عن النساء؟

فقال الغلام: أتسألني عن النساء وأنا صغير لم أطـّلع بعد على أحوالهن ورغائبهن ومعاشرتهن؟ ولكني سأذكر لك المشهور من أمورهن: فبنت العشر سنين من الحور العين. وبنت العشرين نزهة للناظرين. وبنت الَّثلاثين جنة نعيم. وبنت الأربعين شحم ولين. وبنت الخمسين بنات وبنين. وبنت الستين ما بها فائدة للسائلين.

فقال الحجاج: أحسنت يا غلام وأجملت وقد غمرتنا ببحر علمك، فوجب علينا إكرامك ثم أمر له بألف دينار وكسوة حسنة وجارية وسيف وفرس.

وقال الحجاج في نفسه: إن أخذ الفرس نجا، وإن أخذ غيرها قتلته فلما قدَّمها له، قال الحجاج: خذ ما تريد يا غلام.

فقال الغلام: إن كنت تُخيِّرني فإنني أختار الفرس، أما إن كنت ابن حلال فتعطيني الجميع.

فقال الحجاج: خذهم لا بارك الله لك فيهم.

فقال الغلام: قبلتهم لا أخلف الله عليك غيرهم ولا جمعني بك مرة أخرى. وخرج الغلام من بين يدي الحجاج سالمًا غانمًا، بفضل ذكائه وفهمه ومعرفته وحسن اطلاعه.
Advertisements
الجريدة الرسمية