رئيس التحرير
عصام كامل

الثورة الحقيقية الأولى.. وربما الأخيرة في تاريخ مصر!


وقفت في اجتماع هام ضم العشرات بجامعتي بالولايات المتحدة الأمريكية في فبراير ٢٠١١ وقلت بفخر أنا من مصر الجديدة الحرة... فوقف الجميع من مقاعدهم وانخرطوا في التصفيق بلا توقف!! كل منهم قال إنه يحلم بزيارة مصر ليمر ولو للحظة بميدان التحرير ويأخذ صورة به.


لقد أبهر هذا الشباب الصغير العالم أجمع بإصراره على تغيير نظامه البائد والجاثم على صدره لثلاثة عقود مهما كلفه ذلك من تضحيات. فتاريخ ثورات مصر لم يشهد أبدًا ثورة نبعت من الشعب وقادها الشعب بأكمله وبلا زعيم. وكانت ٢٥ يناير ٢٠١١ المرة الأولى في تاريخه الطويل!

فثورة ١٩١٩ قامت بقيادة السياسيين الذين دفعوا وحرضوا الشعب للخروج في مواجهة المستعمر، وثورة ١٩٥٢ قام بها ضباط الجيش ضد قياداتهم وأيدها الشعب، وثورة التصحيح في ١٩٧١ قام بها السادات ضد خصومه وسمعنا عنها فقط بالجرائد، وحتى ثورة ٣٠ يونيو التي خرجنا فيها ثائرين على غباء وتمكن وعنجهية الإسلام السياسي كان مرتبًا لها بالتاريخ واليوم وبحماية الجيش ودعمه وتأييده، وشارك فيها معنا للأسف كل من تضرر من ثورة يناير، وكأنهم كانوا يقومون بثورتهم المضادة تحت مظلة حنق الشعب وغضبه.

لذا فستبقى ثورة ٢٥ يناير الثورة الشعبية الحقيقية والوحيدة والطاهرة في تاريخنا. ولا يضيرها أبدا فئة مندسة وقليلة من الشباب الذين كانوا على ارتباط مشبوه بمؤسسات أجنبية، فغيرهم آلاف وآلاف خرجوا عن بكرة أبيهم من شباب الجامعات المثقف والمستنير يطالبون بالحرية والعدالة والكرامة.

ولا يدينها أيضًا هذه الفئة الضالة من الإخوان المسلمين فهى ليست ثورتهم والتاريخ شاهد على ذلك، فكلنا يتذكر جليًا أنهم أنكروها في بدايتها تملقًا للحكومة، ولم يخرجوا إلا في يوم ٢٨ بعد أن صدرت لهم الأوامر ممن "يسوقونهم" في الداخل أو في الخارج ليجعلوها فرصتهم للوثوب على سدة الحكم.

فالثورة الحقيقية التي عشناها حضورًا ضمت الملايين من الشعب الطاهر الذين خرجوا بالفطرة ليعبروا بصدق عن غضبهم ونفاد صبرهم على عصر مبارك المتحجر، والذي جرَّف التعليم والصحة والأخلاق، وحول الدولة إلى مرتع للفساد والبلطجة والمال الحرام وسرقة أموال الشعب وأراضيه والتجني عليه وإذلاله!

نظر العالم أجمع ونظرت معهم باحترام شديد لهذا الشباب النقي الطاهر الذي استخدم تيكنولوچيا العصر ليجمع صفوفه ويفرض إرادته. لقد علَّم هذا الشباب النابه شعوب الأرض درسًا في عظمة الشعب المصري حين يريد أن يغير مستقبله مما جعل العالم يشيد به شرقًا وغربًا.

حتى حين حاول مبارك وحاشيته استمالتهم وتحييدهم لم يرضخوا. أتذكر وأبواق إعلامه ترجو أسرهم أن يطلبوا منهم العودة إلى منازلهم. أتذكر والبلطجية المأجورين يحيطونهم من كل جانب ويلقون عليه الحجارة والمولوتوف. أتذكر وخيامهم تداوي جرحاهم وتضمد آلامهم. أتذكر نومهم في العراء في عز الشتاء وهم لا يعرفون من أين سيأتيهم الموت بكرة أو عشية. وأتذكر القلوب الرحيمة التي كانت تأتي لهم بالطعام وتجازف بأرواحها.

وكما أتذكر الرصاص والخرطوش والقنابل الخانقة ورشاشات المياه التي قابلوها بصدورهم العارية بشجاعة أتذكر غُناهم ويُفطهم المبتكرة وحتى دعاباتهم. لقد كان شعبًا مذهلًا عن حق في إصراره وتصميمه على التغيير بطريقته الخاصة والجديدة ووثوبه وأمله في فتح صفحة جديدة للمستقبل فيها الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

كانت كلمات الأبنودي كمدافع الرصاص وألحان الشباب الفطرية ترعد في الفضاء "خرجت وقلت مانيش راجع... في كل ركن في بلادي صوت الحرية بينادي". كانت الفلول ترتعد منهم وكان مبارك وزبانيته يترنحون وهو يخلع بيديه أوراق التوت التي حجبت عورته واحدة بعد الأخرى ليرضيهم فيعزل وزارته ويفصل الفاسدين من حوله ويغير أمين حزبه بشخص نظيف طاهر حتى يتجمل لهم أو يُهدأ بتنازلاته الشعب الهائج، إلا أنه وقف وحيدًا ذليلًا، خاصة بعد أن انحاز الجيش للشعب الثائر على الظلم والتخلف والذي أثبت بموقفه البطولى أنه جيش للشعب وليس للسلطة الغاشمة.

استشهد منهم العشرات وفقد العديد منهم بصره برصاص مجهول لا نعرف مصدره حتى الآن، ولكن استمرار صمودهم في جميع أنحاء مصر أذهل العالم وأدهشنا. قلنا وقتها لقد فعل هذا الشباب النقي ما عجزنا نحن العواجيز عن فعله على مدار عقود من الهوان والذل.

ستبقى ثورة ٢٥ يناير الثورة الشعبية الأولى والحقيقية في تاريخنا المجيد وستظل ومضة أمل ساطعة في تاريخ أمتنا نحكيها لأجيال بعد أجيال، ونتشرف بمعاصرتها أو شرف الاشتراك فيها. نعم لقد جرت السفن بغير ما تشتهى الرياح ووثب على الثورة الطاهرة من وثب وخرج الفاسدون من السجون وعاد الفلول لينعمون ببرائهم وبحصاد فسادهم وفشلت الثورة الطاهرة في تحقيق أي من أهدافها.

ولكن المؤسف الآن أن يدعي البعض أن الثوار كانوا سببًا في الدمار الاقتصادي الذي الذي تلى الثورة وتناسوا كيف كان العالم يسعى وقتها لمساعدة مصر الجديدة الحرة التي كنا نحلم بها لو تحقق حلمنا بالحرية والكرامة. بل وصل الأمر حديثًا ببعض الجهلة والمغيبين ومنهم الفلول العائدة وأذنابهم لإطلاق اسم المؤامرة على أول ثورة مجيدة يخرج فيها ملايين الشعب المصري لأول مرة!

لقد أثبتنا بغباء أننا بذاكرة السمك ننسى هذه الأيام العظيمة سريعًا ونقبل أن نسمع هراءًا ما بعده هراء ونصدقه، ونكذب ما رأيناه أمام أعيننا وسمعناه بآذاننا. فمهما قال البعض وتندروا ستبقى ٢٥ يناير ثورة، حتى وإن فشلت في تحقيق أهدافها، فهى ستظل محفورة بحروف من نور في تاريخ شعبنا العظيم، وسنظل نترحم يوميًا وندعوا بالمغفرة لشهداء الوطن من شبابه ورجاله الذين وهبوا حياتهم رخيصة لرفعته ومجده. هذه دعوة صادقة لمراجعة النفس. عاش أبطال الثورة المصرية الأولى والعظيمة وربما الأخيرة في تاريخ هذا شعب الرائع!
الجريدة الرسمية