رئيس التحرير
عصام كامل

اعترافات صاحب «نوبل» عن النساء والفلسفة والكتابة: للمرأة دور كبير في حياتي.. لا أترك القلم طالما الأحداث تستدرجني.. ما عملت عملا أخجل منه.. أنا رجل شتوي والصيف راحة إجبارية.. وأكتب للهروب من

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

مثلما كان الأديب نجيب محفوظ واقعيا في أعماله ونظرته للمجتمع، كان أيضا متصالحًا مع ضميره، ومدركًا تمام الإدراك أنه لا يتصف بصفات الملائكة، بل إنسان يخطئ ويتوب عن خطئه.. ومن مبدأ المصارحة والمصالحة مع النفس، كان صاحب نوبل لا يستشعر حرجا في الحديث عن نفسه وحياته، وهذا ما ظهر واضحا في حواراته الصحفية التي أجراها طوال مشواره الأدبي.


نشأتُ في شارع النساء
كان للنساء دور كبير في حياتي، فقد كان للأم أكبر دور وكذلك الزوجة، والحب بمعناه الأفلاطوني كان له أثر كبير في سن المراهقة، ثم أتى بعد ذلك الحب الناضج.

وتنقلي بين أحياء القاهرة من قمتها إلى أسفلها ومن أسفلها إلى قمتها، جعلني أعرف وأُخابر النساء من جميع الأشكال والألوان، وأنا صغير عرفت العوالم، وكانت هناك صالات الملاهي مثل صالة بديعة وغيرها، حيث عرفت الراقصات والمغنيات.

ولعبت أمي في حياتي دورا مؤثرا لأنها كانت مولعة بزيارة الآثار القديمة، على الرغم من أنها أمية ومن الجيل القديم، فقد زرت معها دار الآثار المصرية عدة مرات، والهرم وأبو الهول وجميع الآثار القبطية ومنها كنيسة ماري جرجس.

فلسفتي في الحياة
لا أستطيع أن أكرر نفسي، وكل موهبة ولها عمر، أحب أن أتذوق كل ما على مائدة الحياة، والثقافة بالنسبة للأديب هي جزء أساسي في تكوينه المهني، وكان للموسيقى مثلًا في نفسي أثر كبير يكاد يضارع تأثير التراث الأدبي نفسه، فقد عرفت الرعيل الأول من الموسيقيين الذين طوروا الموسيقى العربية مثل عبده الحامولي وعبد الحي حلمي والمنيلاوي وصالح عبد الحي، ثم بعد ذلك العبقري الفريد سيد درويش الذي خطا بالموسيقى العربية إلى عصر جديد تماما، أكمله بعده محمد عبد الوهاب وأم كلثوم.

أيضا كان المعمار له عندي أهمية خاصة منذ الصغر، واكتشفت فيه أدق مكنونات الحضارة المصرية الفرعونية والعربية الإسلامية اللذين هما شريانا الثقافة المصرية الحديثة.

ودرست الفنون بناء على نصائح المفكرين كالعقاد والحكيم، وبدأت بالفنون التشكيلية والتصوير والنحت والعمارة، وقرأت كتب تاريخ الفن العالمي.

وفي مجال الأدب نفسه، لم تكن قراءتي حكرًا على التراث العربي وحده، إنما حاولتُ التعرف على الآداب الأجنبية، فقرأت الأدب الإنجليزي في عز كراهيتي للمحتل البريطاني، وكان هذا الأدب يجعلني أثور أكثر ضد الاحتلال.

كذلك قرأت الأدب الفرعوني شعرا ونثرا وقصصًا، واستخدمته في الكثير من أعمالي مثل "عبث الأقدار - كفاح طيبة - رادوبيس والعائش في الحقيقة".

عاداتي في الكتابة
لي عادات ثابتة في الكتابة، فأنا عادة أستيقظ في الخامسة صباحا، ويومي بسيط جدا بعد خروجي إلى المعاش، فأخرج من بيتي في السابعة صباحا، وأصل إلى المقهى سيرا على الأقدام في الثامنة صباحا، وأظل هناك حتى التاسعة، ثم أعود إلى بيتي وأقضي بقية النهار في البيت حينما يكون الموسم عملًا.. أقرأ وأكتب وأسمع الأغاني والبرامج الإذاعية وأشاهد التليفزيون بعد التاسعة مساءً.

أنا معتاد بالفعل على تنظيم وقت الكتابة والقراءة، لكن هذه الدقة ليست جامدة، فأنا أختار وقت بدايتي في الكتابة صباحا، لكن لا يمكن أن أترك القلم طالما أن الأحداث تستدرجني.

متصالح مع نفسي
والله، ودون مبالغة في الحديث، حاولت طوال حياتي أن أعمل بضمير، وفي حدود مبادئي ما وسعني ذلك، ولا أعتقد، والله شهيد أني ما عملت عملا أخجل منه، بل حاولت أن أكون مع ضميري قدر استطاعتي، لدرجة أنني كنت رئيسا لمؤسسة السينما، وكانت لجنتها رفضت قصة لـ"ثروت أباظة" أقرب الأصدقاء إليّ لأسباب تراها اللجنة، ووافقت على استبعاد القصة رغم صداقتي لثروت أباظة الذي قدَّر هذا.

رجل شتوي وبالصيف راحة إجبارية
أنا رجل شتوي، وفصل الصيف بالنسبة لي يعطلني عن الكتابة، وأعتبر الخريف والشتاء هما فصلا العمل والنشاط والحيوية، على عكس الكائنات التي تعرف البيات الشتوي، فروحي في الشتاء تكون متألقة، وكل استعداداتي وإمكانياتي الأدبية تكون في حركة ونشاط، ثم يجيء الربيع وتبدأ فترة البيات الربيعي والصيفي.

وسبب ذلك أنني في أيام المدرسة اعتدت المذاكرة في الشتاء وكان الصيف للعب فقط، وعندما تخرجت عام 1934 أصابتني حساسية في العين والجلد، وتعاودني كل ربيع فتجعلني غير صالح للعمل حتى لو أردته، بينما في الشتاء كنت أسترد إمكانياتي، فهو فصل الصحة والعمل وليس فصل المرض كما هو عند البعض.

وطوال عمري أعتبر الصيف عائقا في كل شيء لأنه يعطلني عن الكتابة فهو بمثابة راحة إجبارية، لكنها كانت فترة تسمح لي بالتأمل الذي يوحي لي بالكثير من الأفكار.

الهروب من الموت
الكتابة عندي محاولة للهروب من الموت، وأنا أتحرر بالكتابة من عذابات كثيرة، فمثلا الخوف من الموت هناك عشرات من القصص القصيرة التي تبنى على فكرة الموت وتنتهي بتحرير الإنسان من عقدة الخوف من الموت.

وقالوا إني تخوفت من الإبداع بعد حصولي على جائزة نوبل وأقول لا، لأن توقيت حصولي عليها له آثار مختلفة، فعندما تأتي الجائزة في مقتبل العمر تختلف عن الحصول عليها في منتصف العمر وتختلف عنها في الختام، وهي لم تسبب لي الخوف لأنها جاءت وأنا في المرحلة التي تشبه الفترة التي يجمع فيها العطار كناسة دكانه.

...

المصدر: مجلة نصف الدنيا 2006 - عدد تذكاري بعنوان «نجيب محفوظ»، صدر بعد رحيله في 30 أغسطس 2006.
الجريدة الرسمية