رئيس التحرير
عصام كامل

«هربت من الحرب لتسقط في القصف».. صواريخ الاحتلال تغتال فرحة «عروس سورية» بقطاع غزة

فيتو

كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلًا، الصمت والهدوء الحذر يخيمان على المنطقة الجنوبية بقطاع غزة وتحديدًا بلدة "خان يونس"، فما أن تهدأ صفارات إنذار القصف سرعان ما تليها أخرى يكاد دويها يصم آذان القاطنين لدى المنطقة الحدودية للمدينة الممزقة.
 

في تلك الأثناء كان "سند أبو لطيفة" 22 عاما مصور صحفي من أبناء منطقة شرق القطاع، والذي يعمل لدى اثنتين من أكبر المؤسسات الصحفية العالمية وهما "دويتش فيليه الألمانية و"ميدل إيست البريطانية"، في مصاف المصورين والمراسلين الذي يتابعون أنباء القصف لحظة بلحظة، إلا أن حدة النزاعات بالقرب من الشريط الحدودي حيث يسكن سند منعته من الوصول إلى "بناية الرحمة" التي أصبحت محط حديث وسائل الإعلام الفلسطينية بعد استهداف قناة الأقصى وتسويتها بالأرض: "الكل كان بيتكلم عن استهداف بناية الرحمة ذات الطوابق الخمسة، لذا قررت انزل تاني يوم عصرا واصورها، وهناك وتحديدا بالطابق الثاني للعقار كان فستان زفاف فادي الغزالي وعروسه ممزق ومعلق بإحدى الغرف الداخلية لشقة الزوجية".



لم يتردد "سند" لحظة في التقاط تلك الصورة التي تجسد المعاناة الفلسطينية بأركانها المتكاملة، فستان زفاف يقف وحده بين أنقاض مبنى تقوض بفعل الغارات الهمجية الإسرائيلية، خراب ودمار استطاعا وبإحكام قتل فرحة كانت تختبأ من دوي صفارات الإنذار في هذه الغرفة الصغيرة بالعقار القائم في شارع الشيخ رضوان غربي القطاع زعما من قوات الاحتلال أنها المقر الرئيسي لقناة الأقصى الفلسطينية: "أنا بطبيعتي بحب أتميز عن باقي المصورين، بفتش خلف الحدث عن التفاصيل الإنسانية، فبسأل الجيران ليش زعلانين على الشقة المتواجدة في الطابق الثاني والمملوكة للشاب فادي الغزالي، قالوا لي إحنا كمان يومين كان عندنا فرح، فقررت اعرف إيش قصة الفرح، ياللي بعد خمس أيام، دخلت إحدى غرف الشقة المتهدمة بالصدفة، وجدت الفستان ممزق ومغبر من أثر قصف البناية بصاروخين".

سرعان ما وجدت الصورة التي غردت خارج سرب التغطية الميدانية العادية لمصوري الحرب بقطاع غزة، مكانا لها بين آلاف الصور التي توثق المعاناة التي يعيشها أبناء القطاع تحت قصف المنازل بأكثر من 300 صاروخ إسرائيلي منذ مساء الأحد الماضي خلف وراءه نحو سبعة شهداء وعشرات الجرحى.



ظلت الصورة بتفاصيلها عالقة في ذهن "سند"، ابن القطاع الذي أنهى دراسة العلاقات العامة والتصوير الصحفي من جامعة فلسطين، وظل شغله الشاغل منذ كان في الثامنة عشر من عمره البحث عن أذرع المعاناة الفلسطينية والإمساك بها جميعا، إلا أن هذه الصورة ستظل هي الأهم لديه على الإطلاق: "الأحداث التي شاركت بها كانت الحياة اليومية لأبناء غزة الفقراء والمخيمات المهمشة والصور الجمالية، وأهم الأحداث التي شاركت بها كانت تغطية مسيرات العودة، ووجودي على خط النار وبالقرب من الشريط الحدودي جعلني أتواجد بكافة الأحداث الساخنة التي مر بها القطاع على مدار السنوات الثلاث الماضية، لكن بتضل هادي الصورة لها مكانتها الخاصة رغم إنها التقطت على سبيل الصدفة البحتة وغير المرتبة".

ظل "سند" يفتش على خيط يصله بالشاب العشريني فادي الغزالي، صاحب شقة الزوجية التي استهدفت قبل أن يتم تهيئتها للعيش وتكوين أسرة جديدة: "سألت عنه الجيران قالوا إنه بخير ما صار له شيء، لكن أخبروني إنه قصة فادي مع عروسه غير نمطية وتستحق أن تروى بكل ما تحمله من معانِ للإصرار ومواجهة الحرب بسلاح الحب حتى النفس الأخير!".


عدسة المصور وليد محمود

الثامن عشر من نوفمبر الجاري كان موعد زفاف فادي الغزالي على الفتاة التي تعلق بها ووقع في حبها منذ أكثر من خمس سنوات، رغم تباعد المسافات بينهما، بينما كانت تقطن هي في بلدة "خان شيخون" بمحافظة إدلب السورية، وجمعتهما ويلات الحرب، كأن قوى المعاناة والخوف هي ما كانت عامل التآلف الأقوى بين هذين القلبين المتباعدين: "وقعت في حبها حينما كنت في السابعة عشر من عمري، وتعرفنا من خلال السوشيال ميديا، وكانت تعاني من ويلات الحرب التي تشهدها بلدتها خان شيخون السورية، كثيرا ما شاهدت أشياء لا يستطيع العقل البشري تخيلها، كانت تحكي عن جثث القتلى الملقاة على قارعة الطريق وكيف كانت رائحة الموت تزكم أنفها أينما وطأت قدماها".
 
قرر فادي ومحبوبته السورية وضع نهاية سعيدة لقصة حبهما، تضفي مذاقا جديدا على طبيعة النزاعات في سوريا وقطاع غزة المحاصر، ليرويا لأبنائهما في المستقبل عن الحروب وويلاتها وكيف يمكن للحب وحده أن يصارع الحرب ويكسر شوكتها، "طلبت يدها من والديها وتقبلا الأمر وحلمنا أن نكون معا ولكن القرار قوبل بالسخرية من الجميع فكيف للاجئة سورية أن تتوغل إلى قلب القطاع المحاصر بل وتتزوج أيضا! وهي تعيش في دولة مزقتها الحرب". 



مطلع الأسبوع الماضي شارف المستحيل على أن يصبح واقعا ملموسا، تمكنا من ترتيب الزيارة الأولى لها للقطاع ومنزل الزوجية في "بناية الرحمة" غربي القطاع، أخيرا وبعد خمس سنوات من الاشتياق سيلتقيان للمرة الأولى.. منذ لحظة وصولها بدأ التحضير للزواج من خلال شراء الأشياء المهمة التي تنقص العروس قبل موعد الزفاف، هي بدورها أحضرت فستان الزفاف من سوريا، أما هو فعكف على وضع اللمسات الأخيرة لعش الزوجية، واتفقا على أن يكون تاريخ الزواج مع احتفاله بذكرى ميلاده، وهو الثامن عشر من نوفمبر، كان كل شيء جاهزا، إلا أن الحرب لم تكن قد وضعت أوزارها بعد: "كنا في انتظار يوم ميلادي لنكون الزوجين الأسعد على الإطلاق، ولكن خلال الـ24 ساعة الماضية تمزق الحلم تماما وذهب أدراج الرياح، تهدم جانب العقار تماما، وتقوضت أسقف وجدران العش الصغير، وحطمت النوافذ فضلا عن تمزق الفستان تماما، القصف دمر حلم أوشك على التحقيق".


كافة الأموال التي جمعها فادي لتغطية تكاليف الزواج هي أيضا ذهبت مع الريح، تم تأجيل موعد الزفاف لأجل غير مسمى حتى يعيد الشاب ترميم الشقة وشراء مستلزماتها من جديد، بدا شبح الحرب وكأنه يطارد العروس من مسقط رأسها في إدلب السورية حتى قطاع غزة المحاصر بفلسطين.
الجريدة الرسمية