رئيس التحرير
عصام كامل

أسامة الجندي يكتب: نحو خطاب ديني مستنير

أسامة الجندي
أسامة الجندي


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أما بعد...
فإن الدين له ثوابت لا مساس بها، لكنها تتغير في أسلوب عرضها، ومن هنا فعرض الثوابت في الخطاب الديني يختلف من زمن لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن قوم لغيرهم، وانطلاقًا من هذه الطبيعة للدين، حيث إن الدعوة إلى الله تعالى هي أشرف رسالة، بل هي على رأس الرسالات، كما قال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين"، فينبغي أن يكون أداؤها على أكمل ما يكون من خلال وسائل ومقاصد جديدة، يستطيع صاحب الدعوة من خلالها أن يصل بالدعوة إلى جميع العقول على اختلافها.
 

ولا شك أن وسائل الدعوة تعددت قديمًا، إلا أن العصر الحديث قد أضاف إليها أنواعًا أخرى، بل وما زال الجديد يظهر كل حين بوسائل جديدة، والداعية الناجح هو الذي يهتم بوسائل الاتصال المختلفة للاستفادة بها في الدعوة الإسلامية، وليس ذلك من باب مواكبة العصر فقط؛ إنما لأن الاستفادة من المستجدات الحديثة يُعدُّ من الضرورات الواجبة شرعًا في الإسلام؛ لأن التنافس الفكري والتقاء الحضارات، وظهور كل فريق بكل جديد يظهر ذاته، لا سيما نحن الآن نعيش في القرن الواحد والعشرين.

ثم إن الأمة أيضًا تعيش فترة عصيبة من تاريخها؛ حيث تتقاذفها الأمواج من كل الاتجاهات، وتكاد تعصف بها تيارات كثيرة، ومفاهيم مغلوطة، وأفكار خاطئة، بل وتتقلب في الكثير من الأزمات، الأمر الذي يحول بينها وبين أي تقدم أو استقرار، ولعل من أشد الأزمات التي نتعرض لها اليوم، بل وهي أساس أزمات كثيرة [البناء الفكري للأمة، من حيث انتشار ثقافة التشدد والانغلاق والفهم الضيق والمغلوط للنصوص الشرعية وتوظيفها حسب الهوى والانتماء دون فهم المراد منها وغايتها، وكذلك انتشار ثقافة الفرقة والتعصب وبذر بذور الفتنة بين أفراد الأمة وضرب لُحمتها.

حيث إن الداعية ينبغي عليه ألا يكون في معزل عن مجتمعه الذي يعيش فيه، فلم يكن من المقبول ولا المعقول أن يقف هكذا جامدًا عاجزًا، بل كان عليه أن يعالج البناء الفكري للأمة برؤية إسلامية مستنيرة تعمّق قيم الإسلام الأصيلة وتعاليمه السمحة، فيعمل على إصلاح الفكر وتجديد لغة الثقافة والحوار لما يُرى من المتغيرات التي تطرأ على الحياة، فالأمم الواعية هي التي تحاول تجديد حيوية ثقافتها وحضارتها، مع رد كل فكر كان له انعكاسٌ سلبيٌّ على صورة الإسلام والمسلمين في العالم. 

فالداعية على الحقيقة يحمل على عاتقه مهمة خطيرة، وشديدة الأهمية، فهو يجاهد ويكابد من أجل البيان الأصيل لمعالم الإسلام ومفاهيمه، لا سيما ونحن نعيش الآن حالة من الفوضى الفكرية، فإننا نجد اليوم تيارًا يتسم بالجمود والانغلاق، تيارًا ينشر التعصب والتشدد دون النظر إلى حاجة العصر وطبيعة المتغيرات.

ونجد تيارًا ثانيًا يحاول أن يعزل الدين عن الحياة، ويضيق واسعًا، ونجد تيارًا ثالثًا يسارع بالتكفير الناس، ونجد تيارًا رابعًا اختصر الأحكام التكليفية من خمس أحكام إلى حكمين فقط وهما الواجب والحرام، وكأنه لا يوجد المباح ولا المندوب ولا المكروه، ونجد تيارًا آخر يخترق العقول بالشبهات والقلوب بالشهوات؛ مما يؤذن بدعوة للإلحاد. 

لكن مع وجود هذه التيارات وتلك الاتجاهات فهناك الفكر الإسلامي الأصيل الذي يقف بينها، وهو الفكر الوسطي المعتدل الذي يلتزم بثوابت الدين مع مراعاة مقتضيات العصر ومصلحة الزمان والمكان، الفكر الذي يتسم بالمرونة والسهولة والانسيابية مع مقتضيات ومتغيرات العصر، الفكر الذي يقوم على إحياء تعاليم الإسلام بخطاب مستنير في رحاب النصوص، الفكر الذي يبني العقلية المسلمة بتوعيتها بحقائق الإسلام وأبعاد العصر، الفكر الذي يعمل على إحياء قيم ومقاصد الدين، الفكر الذي يعي مصلحة الأمة، الفكر الذي يقوم بترشيد الخطاب الديني ليكون منسجمًا مع روح العصر الحديث ومتطلباته، الفكر الذي سيقوم بمواجهة تلك التيارات ليعود بالمسلمين إلى منهجية الإسلام (الوسطية والاعتدال).

فلا شك إذن أن الأمة الآن تنتظر من الدعاة أن ينيروا لهم الطريق، وأن يكونوا عونًا لهم على التغلب على سائر مشكلاتهم، والسير بهم إلى إقامة النهضة والتقدم والرُقي.

وفي الحلقات المقبلة سنقدم بعض الضوابط، وما ينبغي أن يتمثله الداعية وسنراعي فيها أركان الدعوة الخمس (الداعية – المدعو- الرسالة – الوسيلة – الأسلوب).
الجريدة الرسمية