رئيس التحرير
عصام كامل

سلسلة تجارب اقتصادية ناجحة.. التجربة الصينية (2)


تتميز تجربة "دينج شياو بينج" بالمزاوجة بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاشتراكي وهو ما أطلق عليه "اقتصاد السوق الاشتراكي" أو "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية".. التي يمكن اختصارها في التزاوج بين القطاع العام والخاص، مع وجود إرادة لدى القيادة الصينية والحزب الشيوعي الحاكم في تطوير القطاع العام، وهو ما يؤكد مراعاة الصين لخصوصية وضعها وخلق نظام اقتصادي تستطيع من خلاله الصين بناء اقتصادها القومي مع مراعاة طبيعتها ومقوماتها مواردها الطبيعية بما يتيح لها الاستغلال الأفضل، واستطاعت من خلال هذه التنمية الاقتصادية التي استطاعت بفضل هذه الإستراتيجية والإرادة وعدم الانسحاب المفاجئ للدولة من إدارة الاقتصاد الصيني أن تصبح قوة اقتصادية بل وسياسية وعسكرية عالمية لا يُستهان بها، ومنافس اقتصادي قوى للولايات المتحدة فقد مثّل الاقتصاد الصيني الثاني على المستوى العالمي.


وتتمثل تجربة التنمية الاقتصادية في الصين مع الزعيم الجديد التي يتضح لنا ضرورة إقرار الحزب الشيوعي لها وهو ما يدل على استمرار دور الدولة الموجه للاقتصاد ومنظم لحركة الاستثمار مما يخدم خطط التنمية، وفي نفس الوقت الحفاظ على استقلاليته وعدم تحويله إلى تابع تاريخ الاقتصاد الرأسمالي العالمي على الرغم من فتح الباب للقطاع الخاص، فقد أقر الحزب برنامج التحديثات الأربعة في نوفمبر 1978 التي تتمثل في الآتي:

1) جعل الاقتصاد الصيني أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات الهيكلية التي يعرفها الاقتصاد العالمي.
2) إعادة النظر في أولويات التنمية بحيث يتم التركيز على الزراعة ثم الصناعة فالبحث العلمي وأخيرًا الدفاع.
3) إعادة هيكلة قطاعات الإنتاج، حيث جرى إقرار نظام المسئولية العائلية (أقره الحزب عام 1980) الذي يقضي بتحويل المزارع الجماعية إلى حيازات عائلية، والسماح بمشروعات خاصة، وتحتفظ الدولة بسيطرتها على الصناعات الثقيلة وقطاع الطاقة والتعدين.

4) الإصلاحات الحضرية (أقرها الحزب عام 1984) وتقوم على لا مركزية تسيير المشروعات العامة، خاصة فيما يتعلق بسياسات الأسعار والعمالة.

وقد كان توجه الزعيم "دينج" الذي يمزج بين الاشتراكية والرأسمالية مقولته الشهيرة: "لا يهم إذا كان القط رماديًا أو أسود، المهم أن يلتهم الفئران"، ومن ثم؛ المهم ليس الاشتراكية أو الرأسمالية لكن المهم أن يحدث النمو وأن تحصل الصين على التكنولوجيا المتقدمة ورؤوس الأموال التي تحتاجها من أجل نهضتها، وقام بواحدة من أهم تحركاته وهي كسر الحصار الاقتصادي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبما يسمح باستيراد وتصدير المنتجات إلى تلك الأسواق في إطار سعيه لجذب الشركات العالمية للإنتاج في الصين.

وقد تمت عملية الإصلاح على مدار أربع مراحل تاريخية تتمثل في خطط خمسية كالآتي:
المرحلة الأولى: سياسات الإصلاح التي تضمنت خطتين متوسطتي المدى (1978-1985)؛ وهذه المرحلة اعتمدت على أمرين هو التغلب على التخلف التكنولوجي في الصين من خلال استيراد التكنولوجيا وتشجيع الاستثمار الأجنبي والاستيراد في المجال التكنولوجي، وذلك من خلال إنشاء 4 مناطق اقتصادية خاصة على طول الساحل، والأمر الثاني هو إعادة بناء الاقتصاد الداخلي بالتدريج وبحذر، وقد تم التركيز على الإصلاح الزراعي وإلغاء نظام توحيد الشراء وتحديد الحصص، وتشجيع التنوع والتخصص وتقديم الحوافز للمزارعين.

المرحلة الثانية: سياسات الإصلاح خلال الفترة 1984-1990، وعلى الرغم من مواجهة عملية الإصلاح بعض المشكلات إلا أن "دينج" استمر في نهج الإصلاح وأعطى أولوية في الإصلاحات الزراعية وانتقلت عملية إصلاح النظام الاقتصادي من الريف إلى المدن.

وهدفت الدولة بتنفيذ خطة شاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تضمنت عدة مبادئ قائمة على التمسك بالإصلاح في المقام الأول، ليتناسب مع البناء، والحفاظ على التوازن الأساسي بين إجمالي العرض والطلب، التمسك برفع العائدات، وتركيز البناء في التحديث التقني للمؤسسات الموجودة، تعزيز تطوير التعليم والبحث العلمي، تحسين الحياة المادية والثقافية في الريف والحضر.

أما المرحلة الثالثة: تجميد الإصلاح (1989-1995)؛ فقد تم مواجهة ارتفاع الأسعار حيث ارتفاع معدلات التضخم، مما اضطرت الحكومة لتجميد الإصلاحات لفترة زمنية معينة، وفرض الرقابة على الأسعار.

وأخيرًا؛ المرحلة الرابعة: فهي مرحلة الإصلاحات التي بدأت منذ 1992 حتى الآن، التي هدفت خلالها الصين بتحقيق اقتصاد السوق الاجتماعي وإصلاح منشآت القطاع العام دون ذكر لمصطلح الخصخصة.

واستمرت الخطط الخمسية حتى وصلت الخطة الخمسية الثالثة عشر التي تندرج في المرحلة الرابعة الخاصة بالإصلاح.

خاتمة
يرجع نجاح "دينج" لعدة أسباب؛ هو مراعاته للتطور في النظام الاقتصادي العالمي وعدم الاستمرار في السياسات الاشتراكية التقليدية، وكذلك عدم تنفيذ أجندات خارجية بل عمل على التزاوج بين القطاع العام والخاص وقدم تجربة اقتصادية خاصة بالصين تحت اسم "السوق الاشتراكي"، والعمل على تطوير القطاع العام وإعادة هيكلته فقد رأت الحكومة الصينية وجوب سيطرتها على بعض القطاعات الرئيسية وهي: الاتصالات، البترول، البتروكيماويات، الكهرباء، النقل البري والبحري والجوي، والدفاع، بالإضافة إلى وجود قطاعات أخرى لا بد من تواجدها المكثف بها وتتمثل في: صناعة الإلكترونيات، صناعة السيارات، والمقاولات وصناعة المعدات، الحديد، والأسمنت.

ومن ثم أصبح للقطاع العام دورا قويا على المستوى المحلي والدولي ويقوم بتنفيذ مشروعات مع حكومات أجنبية والمثال الأكبر الاتفاق مع الشركة الصينية "افيك" على تنفيذ مشروع القطار المكهرب بالعاصمة الإدارية- العاشر من رمضان الممتد بطول 66 كم و11 محطة بتكلفة إجمالية 1.2 مليار دولار، وجدير بالذكر أن يوجد 155 ألف شركة تخضع للقطاع العام الصيني.

ولم تنفصل التجربة الاقتصادية الصينية عن مجال التعليم والبحث العلمي والإبداع فقد اهتمت بالتعليم والاهتمام بالكوادر البشرية، الذي تعتبره من استثمار في رأس المال البشري فقد أصبح معدل معرفة القراءة والكتابة 95%، وبلغت معدل الالتحاق بالمدارس الثانوية 80%، وحصل طلاب مدرسة شنغهاي على الترتيب الأول عالميا في الرياضيات والقراءة وفقًا للبرنامج الدولي لتقييم الطلاب المعياري، والآن تخرج الجامعات الصينية أكثر من 1.5 مليون مهندس وعالم سنويًا، أما في مجال الإبداع والبحث العلمي، ففي عام 2009 بلغ مجموع طلبات الحصول على براءات الاختراع المحلية في الصين نحو 280 ألف طلب، مما أدى إلى احتلال الصين المرتبة الثالثة على مستوى العالم علميًا، وقد نتج ذلك من تخصيص الصين نسبة 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي لمشاريع البحث والتطوير في عام 2015.
الجريدة الرسمية