رئيس التحرير
عصام كامل

عم غتاتة!


لم يكن "عم غتاتة" سوى واحدٍ من أبناء النهر، عاش في واديه الخصيب، وذاق حلاوة الطمى، وقتما كان النيل يتدفق من الجنوب دون سَد. ربط "عم غتاتة" أفراحه بأيام الفيضان، وحزن كثيرًا، حينما قرر النيل أن ينحسر.. وُلِدَ حينما كان الإقطاع يحكم البلاد، وكانت "آلهة الطعام" تَضِن على عُبَادها البسطاء بالخبز.. فلم يمتلك "غتاتة" من أرض النيل سوى قيراطين أو أقل.. ورُغم فقره الشديد، الظاهر في جسده النحيل، فإنهم كانوا ينادونه بـ"الباشا" أو "غتاتة الباشا"!


ولم يأخذ "غتاتة من الدنيا سوى "زينب".. ففي حين كان غتاتة أسمر، كانت زينب فاقعة البياض.. وفى حين كان هو هزيلا نحيلًا، كانت زينب طويلة فرعة.. لم نعرف في قريتنا اسما له سوى "غتاتة" الذي رغم فقره الشديد، فإنه أنه كان عفيفًا.. هكذا كانت تصفه أمى: "عم غتاتة راجل طيب.. إنسان.. عايش دلوقتى لدلوقتى.. ضعفان وجعان.. لكن جدام حتى مراته.. بيبان شبعان".

حين قرر" النيل" أن ينحسر، وقرر" طَميُهُ" أن يَجِف.. قرر القدر ألا تنجب زينب لغتاته" ولدا أو بنتًا" وكأن القدر قد حسم لـ"غتاته" إجابة عن سؤاله المخبأ في الصدر، والذي طالما طرحناه على أنفسنا، ولم نملك جرأة الإجابة عنه.. لماذا ننجب "أولادًا" في بلد مهدد "نيلها"بالجفاف!

لم ير عم غتاته "السد العالى" بنفس الأهمية التي كتب عنها السياسيون والمؤرخون ورجال الاقتصاد والزراعة.. فقد رأه "ماردًا" حَبَسَ عن البسطاء ماء النهر.. خبأ عن الفقراء طمى النيل.. وحين دخلت "الكهرباء" قريتنا، وعرف أنها جاءت من السد اعترض، وأقسم بأيمانات الله ألا يدخل بيته مُحتَكَر.. وقال بصوت عبئه الغضب: سوف أظل وفيًا لـ"لمبة الجاز" التي كان ركنًا أصيلا في "جهاز" أمى!

لم ير "عم غتاتة" خيرًا في دخول الكهرباء إلى قريتنًا.. بل رآها شرا يسرق النوم من عيون الفلاحين.. خطيبًا فاسدًا يدعوا الصبية إلى هجرة الحقول، ويدفعهم بقوة إلى متابعة الأفلام والمسلسلات.. الكهرباء في عين غتاتة هي حصان طراودة الذي خدع بسطاء القرية، في ظاهره مارد وفى باطنه يكمن الدمار لكل شيء نبيل، فقد جعلتهم "الكهرباء" يكرهون السير في الطرق التي جُبِل عليها آبائهم، كما جعلتهم يتمردون على جلباب الآباء والأجداد.. والأخطر في نظره أن جعلت الشباب يتجرأون على عورات النساء، فلا يتورعون عن النظر أو الحديث في مفاتن راقصات الجيل أمثال سامية جمال وسهير زكى!

لقد جعلت الكهرباء الرجال ينامون أكثر مما ينبغى.. أما "المرأة" فقد تعلمت فنونَ الزينة من التلفاز، فاسترخت عضلاتها عن معاونة الزوج، فأُهدِرَّت" البركة" في الصحة والعمر.. إذ حولت "الكهرباء" نهار الفلاحين إلى ليّل، وحولت ليّلهم إلى نهار.. وقال عم غتاتة: إن الكهرباء نذير شؤم على الفلاحين، إذا استمرت الكهرباء في إغرائها، واستمر الفلاحون في تكاسلهم؛ فسوف يأتي عليهم يوم تتمرد فيه الأرض على الإنبات، ويتمرد فيه النهر على الجريان، ولسوف تغار، الشمس" من الكهرباء؛ فلا تُشرِق.. ولن يجد الفلاحون أمامهم سوى الفقر!

وفى حقيقة الأمر لم تكن آراء "عم غتاتة" في مغارم "الكهرباء"هي وحدها الغريبة فقد كان "حُبُ زينب" لهذا الرجل هو الأغرب؛ إذ أغنته بحبها عن مصداقية أهل القرية.. كما أغنته عن ماء الثلاجة الساقع بماء "الزِيِر" الملفوف بـ"الخِيِش المُبَلَل" وأغنته عن حفظ "الأطعمة" بالطبيخ الطازج، وعن مشاهدة المسلسلات" "بالحَكي عن أحوال الفلاحين، وصراعهم اليومي مع الري.. والغلاء.. والمرض!

فقد كانت "زينب" تُوحى لـ"عم غتاتة" بأن الكهرباء "فاسدة" جاءت للفلاحين بأمراض لم يسمعوا عنها قط، تمامًا كـ"الأمراض" التي بدأت تهاجم المحاصيل.. كما أن بيوتهم لم تعد تخلو من الأدوية.. لم تَعُد مزارعهم تخلو من المبيدات والأسمدة!

كانت حياة "عُم غتاتة" تقليدية جدًا، رُغم أنها أنها كانت مُبهِجَة، فمع طلوع الشمس، نشاهد "عَم غتاتة" يمتطى حماره، ويجر خلفه "بقرته" العرجاء، وخلفهما كانت تمشى "زينب" وعلى رأسها "مَشَنة" بها وجبة الغداء، و"تلقيمة" الشاى والسكر، كما كان يسمونها في الصعيد.. وعند غُروب الشمس يكرر المشهد نفسه، حيث يعود "عَم غتاتة" إلى بيته.. يصلى "المغرب" ثم يتناول وجبة العشاء، ويخرج ليجلس على "مصطبته" يحتسى كُوبًا من "الشاى" الساخن، بمتعة فائقة، وإلى جوار "المصطبة" تجلس "زينب" على الأرض، بثوبها الأسود الطويل، وطَرحَتِها الشِيفون، تحكى له بصوتٍ مُنخفِض، عما يجرى في الشارع، ليشاهدا معا سَيّر الفلاحين والشباب، الذين بدءوا يهرولون إلى "مَقهى" القرية؛ لمتابعة مسلسل الساعة السابعة!

كان "لعم غتاتة" حمارة "بتراء"، قطع إحدى أذنيها حينما أصابها السرطان، ورغم مرضها لم يحاول أن يبيعها أو يستبدلها بحمارة عفية.. وكان يقول: "مَرِضَت حمارتى وأنا عُجَزّت" فلا هي بحاجة لشاب عَفي.. ولا أنا بحاجة لحمارٍ عَفي!

كما كانت لديه "بقرة" عرجاء، لكنها حالوب، لم يفكر يوما في بيعها أيضا، وحين سألناه لما لم تستبدلها؟ فقال "لو بعتها لذُبِحَت، ولو كل" بقرة عرجاء" ذبحت، لما وجد أطفال القرية اللبن الذي يشربونه!

كَبُر "عم غتاتة" لكن "زينب" ظلت عَفيّة.. لم تكن "زينب" بالنسبة لـ"غتاتة" مجرد زوجة، بل كانت له "وطنًا" بكل تفاصيله.. فحينما كنت أحدثه عن "مصر" كان يقول: أنظر إلى زينب، فأنا قصير وهى طويلة، أنا نحيل وهى عفية، هكذا تكون العلاقة بين مصر والمصريين، فمصر دائما أعظم من سكانها، بلد قوى وشعب يدعى الضعف والاستكانة، بل جميل، وشعبها يلبس أقنعة القبح.. فمهما يفعل بمصر أبنائها؛ تجدها صابرة رحيمة.. فأنا مثلًا أركب الحمار، وزينب تشدنى، أغضب وأهددها بالطرد من البيت، وهى تصنع لى الطعام، وتذكرنى دوما بموعد الدواء. أجلس على "المصطبة" في حين تجلس "زينب" على الأرض.. زينب تقرأ لى "الكتب" وأنا" أمىٌ" أُكلم الناس ببعض مما فهمت!

لم أشعر معها يومًا بأننى "فقير" فقد كنت معها رغم فقرى "مُرفَهًا" أعيش حياة الأغنياء.. لكن زينب كانت فقيرة.. ولم تشعر بأنها غنية إلا حين ترى البسمة مرسومة على وجهي!

سألته: متى أصابنا "القبح" يا غتاتة؟ فأجابنى حين وجدنا "الجمال والقوة" في ارتداء قُبَعات الغرب، ووجدنا "القُبح" في ارتداء أقمشة الكستور والدوبلين!

كبر"عم غتاتة" حتى الحمار الذي كان يمتطيه قد كَبُر.. وذات يوم وأنا أمرق بجوار بيته، لم أجد "الحمار" مربوطا في عقب الباب كما عودنا.. فطرقت الباب ثم دخلت، لأفاجأ بـ"عم غتاتة" يرقد في حالة إعياء شديد.. سألته عن الحمار، فأجابنى في حزن عميق: لقد مات البارحة، فلم يُعُد لي مطية في الكون ومتكأ سوى "زينب" فضحكت محاولًا تلطيف الموقف، وقلت: ماتت حمارك.. ومتى تموت أنت يا رجل؟!

فأجابنى: سأموت حين أرى "التلفاز" مزروعًا في حقول الفلاحين، وأرى "الكاسيتات" تنعق على ظهور الحمير! سأموت حين يهدم الفلاحون "أفران الخبيز" ويصطفون بالساعات أمام طوابير "المخابز الآلية" سأموت حين يكف الفلاحون عن زراعة القطن، وحين تستورد بلادنا القمح من أعدائها! وحين تسقط هَيبَة "العمدة" ويردد اللصوص في أمان "العُمدة الآلى".. فقلت له ضاحكًا، أما وقد أصبحنا في زمن "العُمدة الآلى" فماذا تنتظر حتى تموت غتاتة؟ فضحك ثم قال -وهو ينظر إلى زينب- سأموت حين تُكُفُ زينب عن الحَكي!
الجريدة الرسمية