رئيس التحرير
عصام كامل

أثر العولمة على الثقافة الوطنية ثم الاقتصاد


إن إشكالية تغير الاقتصاد المصري منذ عهد عبد الناصر إلى عهد مبارك مرورًا بعهد السادات لا يميزه فقط النمط الاشتراكي إلى السوق الحر، وإنما تأثير العولمة على نمط الاستهلاك واحتياجات السوق المحلي، بسبب الانفتاح الثقافي للشعب المصري بكامل طبقاته نحو الثقافة الغربية نقلها الإعلام والثورة التكنولوجية من خلال شبكات الإنترنت بما يمثل تحديًا أمام التنمية المنشودة.


إن انهيار نموذج الاحتلال الغربي للعالم (القوى الإمبرالية) لا يعني خروج دول العالم من سيطرة الغرب بل إنها حققت نوعًا آخرًا من الاستعمار والتوسع، فأصبحت جوجل تماثل قوة لا تقل عن قوى بريطانيا في أوج مجدها التوسعي وقد تحدثنا سابقًا عن أن ١٤٧ شركة تحكم العالم بأسره، ولعل عولمة التجارة وسرعة تناقل المعلومات من خلال الإنترنت أصبح هو المهدد الرئيسي لاستقرار الثقافات المحلية، بل إنه شكل غزوًا للدول العظمى ذاتها من خلال تغير ثقافات المناطق الريفية والمنعزلة، وأثر سلبًا على أنماط العمل ورفع نسب البطالة المحلية التقليدية.

لعل الثقافة الهندية العريقة كانت خير مثال للغزو الثقافي الغربي، رغم أنها تماسكت أمام الاحتلال الإنجليزي لعقود لكن المجتمع رغم فقره اتخذ قراره بالاندماج، وتقبل إحداثيات العولمة بصورة سلسة مثلت نوعًا من التنمية للاقتصاد من خلال الاعتماد على تطوير الموارد البشرية بالتعليم في مجالات التكنولوجيا، وطرح معضلة التطور مجتمعيًا لاستيعاب المتغيرات التي يواجهها المجتمع والنضوج الكافي للإقرار بقبول التغيير المدروس والخروج من العزلة الثقافية.

ولعل الذعر الزائد من مواجهة الثقافات المناظرة إنما يكون ناجمًا عن افتقار المعلومات الكافية عن ذات الثقافات وكيفية استخلاص ما هو جيد، لأن العولمة شكلت بيئة محيطة بالفرد ولا يمكن الهروب منها، ما لم تتنازل عن مكاسبها المادية ولعل التاريخ يشهد أن هناك حضارات استمدت ثقافاتها القومية من حضارات أخرى، وهناك حقيقة لا يمكن إغفالها هى أن الموروث الثقافي المصري هو أكثرها تأثرًا وتأثيرًا بسبب موقع مصر في منتصف العالم القديم وتوارد الحضارات المختلفة شرقًا وغربًا ومرور خطوط التجارة العالمية عليها على مر العصور التاريخية بل أن تعريف الهوية المصرية أصبح مختلفًا في العصر الحالي ما بين الريف والحضر والبادية، لذا فإن التمسك بالتقاليد والقيم لا يصح أن يكون مبالغًا فيه وإنما مرنًا ويلزم تعديل بعضه مثل مشكلات الزواج وقيوده الاجتماعية مثل المهر والشقة التمليك أيضًا يمكن أن نستفيد من احترام الغرب لقيم العمل والعلم واحترام الوقت.

تتميز الحضارة المصرية القديمة أنها شكلت غزوًا ثقافيًا مضادًا نحو الغرب يلزم استثماره تحت مسمى Egypt mania وتحولت لعشق ثقافي لكن الأزمة هى أن الأجيال الحالية لا تقدر تاريخها القديم بذات التقدير نحو حقب تاريخية أخرى، ولا تدرك أنها تمثل قوة ناعمة فريدة نحو العقل الغربي وتزخر ميادين باريس وروما ولندن بالمسلات الفرعونية كشاهد على عظمة مصر وحضارتها، لذا فإن نهضة مصر لن تتحقق إلا بالارتكاز على عناصر قوتها الثقافية لنشر القوة الناعمة في أوساط العلماء والمثقفين تحديدًا، ولعل هذا الموروث التاريخي هو من أهم مصادر الدخل القومي من خلال السياحة.

إن مواجهة أزمة الثقافة الاستهلاكية لن تكون بتخفيض سعر العملة المحلية أو رفع الدعم وإن كانت أدوات فعالة وإنما من خلال إعادة صياغة الثقافة المحلية نحو العمل والإنتاج واستخدام أدوات العلم والتكنولوجيا بالتحفيز والقانون لتحقق التوازن المنشود أيضًا التطوير السلس المدروس لتقبل الثقافات الأخرى لاحتواء جيل الشباب الذي يلهث خلف نمط الحياة الغربية ثم توظيف الثورة التكنولوجية في اتجاه التنمية والتطور والحد من الاستهلاك المفرط لضمان استقرار المجتمع أيضًا التخطيط نحو تمكين القوة الناعمة المحلية لاختراق الثقافات العالمية من خلال عناصر قوة الثقافة المحلية لتحقيق التطور الإنساني المنشود، وليس الانغلاق الثقافي الذي لا يصمد كثيرًا.

لقد أصبحت التنمية الاقتصادية هى هدف الحكومات والشعوب ولا يمكن تحقيقها بدون منهج ثقافي وطني لمواجهة التحديات ولاستيعاب إحداثيات العولمة الغربية، التي شكلت من العالم قرية صغيرة منفتحة ويمكن الاستفادة منها... ومصر كانت وستظل هى مركز العالم بكل الإحداثيات اقتصاديًا وثقافيًا وتاريخيًا وهى بوتقة الحضارات من أقصى الشرق إلى الغرب، ولعل المشروع الذي قاده ساركوزي باسم الاتحاد من أجل المتوسط في عهد مبارك كان يرى أن مصر هى مدخل فرنسا وأوروبا نحو أفريقيا والشرق الأوسط، وهى القادرة على الحوار والتعاطي الثقافي.. لقد تجمد المشروع تحت ضغوط ألمانية، ولكن ما زال للمشروع عناصر ارتكاز يجب أن تعمل مصر على إحيائها نحو الحوار الثقافي المدروس والاندماج السلس مع دول أوروبا ثقافيًا ثم اقتصاديًا مع إدراك الاختلاف الثقافي والقيم والعادات لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة.
الجريدة الرسمية