رئيس التحرير
عصام كامل

من يملأ الفراغ ؟


نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا

ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانا

وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ ويأكلُ بعضنا بعضًا عيانا


هذه أبيات من قصيدة للإمام الشافعي رضي الله عنه.. قفزت على ذهني وأنا أبحث عن تفسير منطقي ومقبول للحالة التي نحن عليها الآن من تراجع حاد للأخلاق ولقيم العمل ولمفاهيم التربية الصحيحة، ومن غياب الخطاب الديني السمح والوسطي، وانتشار التطرف الذي يولد الإرهاب والقتل بلا مبرر أو سبب، أو لأتفه سبب كما نسمع ونقرأ ونشاهد

وحتى لا نواجه الحقيقة المرة.. نذهب سريعا إلى لعن الزمان والأيام، ونتحدث طويلا عن العرض ونتناسى أو نتغافل عن المرض الذي نعرفه جميعا، والحكاية ببساطة هي قضية الفراغ، أو ترك مساحات شاغرة في حياتنا سواء كانت شخصية أو جماعية، والمصيبة أو الكارثة أن يحدث ذلك من السلطة التي أقسمت وهي تتولي المسئولية أن تحافظ وترعي مصالح الشعب رعاية كاملة.

فلو أن الدولة ( السلطة ) لم تترك فراغا في المساجد وتغيب عنها.. ما استطاعت جماعات الظلام وفرق الإسلام السياسي أن تجد موطئ قدم لها في كل هذه المساجد في طول البلاد وعرضها.. حدث ذلك منذ عقود طويلة ومنذ سمح الرئيس السادات بعودة جماعة الإخوان للعمل في المساجد بكل أحجامها الكبيرة والصغيرة والزوايا في القرى والنجوع، وما استطاعت هذه الجماعات أن تسيطر على عقول شبابنا في مراحل متقدمة من العمر ليتحولوا إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه المجتمع عند اللزوم.

ولو أن الدولة ( السلطة ) لم تترك التعليم لكل من هب ودب.. ما استطاعت جماعة الإخوان فتح مدارس تحت شعار ( مدارس إسلامية ) تعلم فيها ما تراه من مناهج وما تقدمه من فكر ورؤية تعلم جيدا أن حصادها منه سيكون عظيما عندما تسيطر على جيل وأجيال تعلمت أن الولاء ليس للوطن لكنه للجماعة، وأن المواطنة مجرد شعار زائف، وأن المسلم في ماليزيا أقرب للمصري من جاره المسيحي وابن بلده، وأن الوطن والحدود فكرة من سراب ومجرد شقة مفروشة يمكن تركها في أي وقت والبحث عن غيرها.

ولو أن الدولة ( السلطة ) لم تنسحب من المستشفيات ومراكز العلاج والرعاية الصحية.. ما استطاعت جماعات الشر أن تحتكر الآلاف من المراكز الصحية المرخصة وغير المرخصة لتقديم الخدمة الصحية للفقراء ومحدودي الدخل فيدينون بالولاء لها ويتنكرون للدولة التي يعيشون على أرضها، ويصبحون رصيدا احتياطيا لهذه الجماعات يستخدمونه وقت الحاجة في الانتخابات المحلية والبرلمانية.. تحت زعم أنهم ناس بتوع ربنا.. يساعدون الفقراء والمحتاجين في وقت تنساهم الدولة.

ولو أن الدولة ( السلطة ) لم تتخل عن دورها في تقديم الفنون الراقية والإنتاج السينمائي والتليفزيوني الجاد والهادف.. ما استطاع تجار الفن أن يجدوا ساعة هواء أو شاشة عرض يبثون فيها أو يعرضون عليها هذا المستوي الهابط في كل شيء الذي يسيء للشعب المصري وللوطن ويقدم رسائل سيئة وخطرة على شبابنا وأبنائنا، ويكرس لديهم صور العنف واستخدام القوة بغير حق ويدمر بداخلهم قيم المروءة والرجولة والشهامة والوطنية !

عندما نترك مساحة فسوف يحتلها أصحاب مصالح شريرة، وعندما نصنع فراغا فسوف يملأه أصحاب نوايا خبيثة.. وقد شاهدنا وسمعنا عن هؤلاء الذين يصعدون المنابر ينفثون السموم في وجوه الحاضرين، وعن هؤلاء الذين خربوا التعليم وخرجوا أجيالا لا تعرف الوطن ولا تهتف باسمه، وعن هؤلاء الذين دمروا الذوق العام للمصريين - إلا من رحم ربي - وأشاعوا فيه الفوضى باسم الحرية واتخذوا من قانون القوة بديلا عن قوة القانون..عندما نصنع الفراغ فلا نلوم غير أنفسنا والأمثلة كثيرة وذكرها وتكرارها يدعو لليأس.. وكما قال الإمام الشافعي..ويأكل بعضنا بعضا عيانا.
الجريدة الرسمية