رئيس التحرير
عصام كامل

سرت عاريا في جنازة أبي

يوم ماتت أمي أنفقت عليها كل رصيدي من الحزن، لكن يوم مات أبي اكتشفت أن لدي احتياطيا كافيا لأن أحزن على نفسي. في جنازته، شعرت بأنني أسير بين الناس عاريا، فقد تكشفت عوراتي، وصرت بلا ظهر.. ذلك الرجل الذي علمني ما لم تعلمني إياه المدارس والجامعات ولا حتى الحياة نفسها.


شاء الله أن يتيتم أبي منذ سنوات عمره الأولى، فقد ماتت جدتي عقب ولادته بوقت قصير، ثم لحقها جدي، بينما لم يكن أبي قد أكمل عامه الثاني عشر بعد. بكى الطفل «أبي» ليوم أو بعض يوم، ثم سرعان ما انتبه إلى أن الله قد خلقه لكي يكون رجلا صلدا، فكفكف دمعاته وراح يعارك الحياة كما تعاركه. وهكذا صار رجلا عاريا من أبويه، يحمل همومه على كتفيه، وآماله في قلبه، وترك سيرته أمانة لدى الناس.

العمل فى التجارة
لم يحظَ أبي بفرصة للتعليم في المدارس، بل ربما لم يكن للمدارس حظا في أن تضم عقلا مثل عقله وروحا مثل روحه، فالرجل الذي لم تخط يده سوى حروف اسمه التي حفظ كتابته رسما، كان متفوقا على أقرانه في كل شيء، ونجح في أن يصنع من اسمه «براند»، ولو أن أحدا من خمستنا (أنا وأشقائي) يهوى التجارة، لصارت لدى الرجل إمبراطورية كبيرة تتحاكى عنها الأجيال.

ففي الوقت الذي كان أقرانه يميلون للمرمغة في تراب الميري (الوظيفة الحكومية)، فضل هو أن يعمل بالتجارة، يبيع ويشتري ويكسب أضعاف من يكسبه غيره. ذات يوم سألته: «ألم يكن الأفضل أن تعمل بأحد المصانع المحيطة بنا، بدلا من المغامرة برزق غير معلوم؟».. فقال: «يا بني كنت أكسب في اليوم ما يكسبه العامل في شهر.. كنت حرا.. أفعل ما أريد.. فكيف لي أن أترك سعة التجارة إلى ضيق الوظيفة.. كيف لي أن أعمل لدى غيري بينما يمكنني أن أكون سيد نفسي!».

محطات فى حياتى
 لي مع أبي في حياتي محطات لم تغادرها ذاكرتي. أذكر في طفولتي أنه كان يمسك الكتاب –وهو الذي لا يجيد القراءة إطلاقا – ويستمع إلى وأن أتلو النصوص ويناقشني فيها بكل بساطة، ولأجله كنت أهتم بالعلم والمذاكرة حتى أحظى بإعجابه دوما.. ولم لا وهو بطلي الأول والأخير وقدوتي بكفاحه وصبره وقدرته على التحمل!

حُرم الرجل من التعليم، فعرف قيمته، وأصر على أن نصل نحن ما انقطع هو عنه.

كنت في المرحلة الإعدادية، حين قال لي أبي: «يوما ستصبح كاتبا»، ولم تكن رؤيتي لمستقبلي قد اتضحت بعد، ولا أعرف من أين أتى هو بذلك التخمين، وكيف له أن يقرأ المستقبل، إذ أنني ومنذ تخرجي لم أكسب جنيها إلا من الكتابة!

واليوم اسأل نفسي، أكان أبي يقرأ طالعي، أم أنه زرع داخلي حبي للكتابة بنبوءته تلك؟!

لم يقرأ أبي كتابا في التنمية البشرية ولا البيزنس أو علم النفس، لكنه كان موهوبا بالفطرة، وكثيرا ما قال لي «اسمك جزء كبير من راسمالك.. وإن أردت أن تقدم خدمة للناس فانس همومك وابتسم في وجوههم.. والزبون دائما على حق إلا إذ مس كرامتك بكلمة».

حكمة أبي
ذلك الرجل الأمي، كان حكيما في تعامله معنا، وأذكر حين كنت في السنة الأولى بالجامعة، قررت أن أخطب! ذهبت إلى أبي وأمي وأخبرتهما برغبتي، فانزعجت والدتي فهي تعلم أن قراري هذا لم يكن سوى نتاج لمشاعر مراهق مفعم بالعاطفة ولا يعرف الفرق بين الحب والإعجاب، أما والدي فتعامل مع الأمر بكل هدوء، وقال لي ببساطة «جميل.. اجمع مصاريف الشبكة وهيا بنا لخطبتها، لكن اسمع مني هذه الكلمات حتى لا تقول إن أبي لم ينصحني، يا ولدي أنت شاب صغير ينتظرك مستقبل مختلف عن أقرانك هنا، ومن تراها زوجة مناسبة لك اليوم، غدا سترى أنها ليست كذلك، وإن كان بإمكانك التراجع الآن فوقتها لن يكون بمقدورك ذلك».

كان الرجل يعرف أنني عنيد، وإنه إن منعني مما أريد سيزيد تعلقي، وسأنشغل عن التعليم بقصة حب نسجها خيالي، فقرر أن يتكرني أجرب بنفسي. وبعد أيام من الارتباط تيقنت من صحة رأي أبي، وكان هذا أول درس عملي في حياتي العاطفية.

وفي زيجاتنا، كان دستوره معي وأخوتي واضحا «ضع حجرا في أساس بيتك وسأكمله لك»، هكذا علمنا أن البداية يجب أن تكون بأيدينا، فلا تنتظر من أحد أن يصنع لك مستقبلك.
كثيرة هي المواقف التي علمني فيها أبي، رحمه الله، ما لم تعلمه لي الكتب والمدارس، قبل أن يرحل ويتركني عاريا إلا مما علمني أياه وزرعه في نفسي.
الجريدة الرسمية