«الغرب يمنح إيران قبلة الحياة».. طهران تفوز في «لعبة عض الأصابع».. وبرنامجها النووي يخرج من نفق العقوبات.. التقارب الأوربي الإيراني يشعل غضب إسرائيل.. ويرفع سقف التوتر في الخليج
على الرغم مما يبدو أنه "لعبة عض الأصابع" بين طهران والغرب فيما يخص الاتفاق حول النشاط النووي لإيران، إلا أن معطيات الواقع تشير إلى قرب التوصل إلى صفقة نهائية تقود الجانبين إلى ما يشبه المعاهدة التي يمكن أن تمنح للجانب الإيراني "قبلة الحياة" وتوفر له الفرصة للخروج من نفق العقوبات المظلم أو تقليصها على أقل تقدير.
وفيما يمضى الغرب قدما في تشكيل منظومة علاقات جديدة مع طهران تعزز موقعها كقوة إقليمية عظمى، يتصاعد مؤشر المخاوف لدى الحلفاء التقليديين للغرب في منطقة الشرق الأوسط، خاصة إسرائيل التي تراقب بحذر شديد ما يجري على الساحة، دون إمكانية الوصول إلى الغرف المغلقة ومعرفة ما يدور فيها من توافقات، ربما لأول مرة في تاريخ علاقاتها مع الغرب خاصة الحليف الأكبر "الولايات المتحدة الأمريكية".
وفى مؤشر واضح على القلق الإسرائيلى بخصوص صفقة يجرى الإعداد لها مع طهران خصص رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، حيزًا مهمًا في جلسة حكومته الأسبوعية للملف النووي الإيراني، أعلن خلاله أنه يواصل حملته الدولية واتصالاته وضغوطه على زعماء ورؤساء الدول لمنع توقيع أي اتفاق مع إيران، واصفًا الصفقة التي قد يتم التوصل إليها بـ"السيئة والخطيرة"، ليس فقط لإسرائيل بل للسلام العالمي.
واستهل نتنياهو جلسة حكومته بتقديم بيان حول جهوده خلال الأيام الأخيرة لمنع أي اتفاق مع إيران واتصالاته مع الرؤساء، الأمريكي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين والفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية ميركل ورئيس الحكومة البريطاني وغيرهم أبلغهم خلالها بأن إسرائيل على قناعة أن الصفقة المزمعة مع إيران "سيئة وخطيرة لأنها تخفف بلحظة واحدة من ضغط العقوبات الذي تفاقم خلال سنوات كثيرة ومن جهة أخرى تحتفظ إيران بقدرتها على التخصيب النووي وأيضًا على قدرتها على المضي قدمًا في مسار البلوتونيوم".
وقد انعكست حالة التوتر التي تعيشها إسرائيل بشأن البرنامج النووى الإيراني على تصريحات بدت حادة لمسؤولين إسرائيليين في أعقاب استنتاجاتهم من حديث وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، خلال زيارته إسرائيل، والتي أكد فيها أن "الرئيس باراك أوباما اتخذ قرارًا استراتيجيًا بشأن اتفاق مع إيران".
وبحسب تقارير صحفية إسرائيلية، فإن الإدارة الأمريكية لم تحاول تضليل إسرائيل فيما يتعلق بالتنازلات التي قدمتها لإيران، لكنها تراجعت عن موقفها بسبب المطالب التي طرحها الجانب الإيراني، وبالتالي لم يتم إطلاع إسرائيل على المضمون الحقيقي للاتفاق الأخذ بالتبلور ما أثار الانتقادات الشديدة التي وجهها نتانياهو إلى هذا الاتفاق.
ووفقا لوجهة النظر الإسرائيلية فإن أي صفقة مع النظام الإيراني خلال الفترة التي بات يواجه فيها ضائقة شديدة، ستمنح طهران متنفسًا دون أن تقدم أي تنازلات حقيقية، بالإضافة إلى أن أي اتفاق سيتم التوصل اليه مع إيران سيكون خطأ تأريخيًا يسمح لها بمواصلة تطوير برنامجها النووي.
توتر إسرائيلي
وقد دفعت حالة التوتر التي اعترت وجه المشهد الإسرائيلى خلال الأيام الماضية، وتجديد نتنياهو لتهديداته بتوجيه ضربة إستباقية لإيران بالسفير الأمريكي في تل أبيب دان شابيرو، إلى تهدئة المخاوف الإسرائيلية حول اتفاق محتمل مع إيران، إذ أبلغ مؤتمرًا للمنظمات اليهودية الأمريكية يُعقد في القدس أن "الولايات المتحدة وإسرائيل تتشاركان أجندة متطابقة في هذه المسألة"، مذكرًا بتعهد الرئيس أوباما أنه "لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي وأنه مستعد لاستخدام كل عناصر قوتنا لضمان نجاحنا".
وعلى الرغم من محاولات الإدارة الأمريكية تفنيد موقفها وموقف الغرب بشكل عام من الملف النووى الإيرانى، إلى أن رسائل الطمأنة التي تصدر من العواصم الغربية، لن تكون قادرة على التأثير الإيجابى في ظل الخطوات العملية التي من شأنها تأكيد فرضية الدعم الغربي لطهران من خلال إجراءات بناء الثقة بين الغرب والعاصمة التي تشير إليها أصابع الاتهام بشأن العبث بكثير من ملفات الشرق الأوسط المشتعل.
وليس أدل على ذلك من إعلان طهران ولندن أنهما استأنفتا علاقاتهما الديبلوماسية على مستوى قائمَين بالأعمال " غير مقيمَين"، بعد تجميدها عام 2011 إثر اقتحام طلاب السفارة البريطانية في طهران.
وأشارت الخارجية البريطانية إلى أنه تم تعيين اجاي اشارما قائمًا بريطانيًا بالأعمال غير مقيم في إيران، فيما أعلنت طهران تعيين محمد حسن حبيب زاده قائمًا بالأعمال غير مقيم في لندن، وهى الخطوة التي تؤشر إلى بداية لتأصيل الحضور الإيرانى كقوة دولية، لها حق استخدام مفاتيح الحلول لأزمات شديدة التعقيد، استنادا إلى نفوذها الذي يمنحه التقارب الغربى شرعية تشعل القلق في دوائر الحلفاء العرب الكبار.
ووفقا لما أكده الكاتب البريطاني الشهير روبرت فيسك، فإن رفض المملكة العربية السعودية لعضوية مجلس الأمن نابع من خوفها من استجابة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، لمبادرات إيران الهادفة لتحسين العلاقات مع الغرب.
وقال فيسك في مقال بصحيفة "الإندبندنت" البريطانية إن الرفض السعودي لا يمت بصلة بالملف السوري تعقيداته، إنما جاء ردًا على التهديد الإيراني.. مشيرا إلى أن المبدأ الوحيد الذي حكم الدبلوماسية السعودية مع حلفائها من الغرب كان الإبقاء بشكل صارم على أي خلافات خلف الأبواب المغلقة ولاتظهر للعلن أبدًا.
وفي السياق ذاته، ذكر فيسك أن التدهور الذي شهدته العلاقات السعودية الأمريكية في الفترة الأخيرة "غير مسبوق"، وأشار إلى التهديد الأمريكي للسعودية بتقليص تعاونها مع المخابرات الأمريكية، وعلى الجانب الآخر، قالت السعودية إنها تبحث عن مصدر بديل للسلاح الأمريكي.
مساع متقاطعة
ويبدو أن الدول الغربية تسعى الوصول إلى اتفاق مع طهران تبدو تفاصيله غير واضحة حتى الآن، إلا أن الغرب -كما هو معلوم- يطمح إلى السيطرة على البرنامج النووي الإيراني وتحجيمه في إطار لايمكن معه الانطلاق إلى أبعد من الاستخدامات السلمية، وتحديدًا الابقاء على نسبة تخصيب 5ر3 % بعد أن استطاعت طهران الوصول إلى نسبة 20%.
فيما تهدف إيران إلى إنتاج يورانيوم مخصب حتى 90% (اللازم لصناعة سلاح نووي)، ولهذا فإن بلوغ مستوى 5ر3 % يتطلب نحو 75% من العمل، وعند بلوغ نسبة التخصيب 20% -المستوى الذي حققته إيران حاليًا- فقد تم إنجاز 90% من العمل.
ويبدو أن دخول الملف السوري على خط الأزمة، جعل الأمور تأخذ شكلًا لم يكن في الحسبان القيام به، وهو تحجيم البرنامج النووي الإيراني ووضعه تحت الرقابة الصارمة، حيث أجادت طهرات اللعب بالورقة السورية، وبدلا من كونها ورقة ضغط عليها باتت أحد أوراق القوة التي تمتلها في المنطقة، ما حدا بالغرب إلى التقرب من غيران ومغازلتها أحيانا.
ويثير التقارب الإيراني- الأمريكي- الأوربي المخاوف بسبب ما يمكن أن ينتجه من أوضاع جديدة تعيد رسم خارطة النفوذ في المنطقة، فالتقارب يعني التسليم بطهران كقوة نووية لديها القدرة التكنولوجية للوصول إلى مستويات تخصيب عالية، لكن دون أن تصل إليها، ما يمنحها ميزة تفضيلية أمنية دفاعية على بقية دول الخليج خصوصًا والإقليم عمومًا.
فيما يمتد الأثر السلبى للتقارب الأمريكي- الإيراني- الأوربي على دول المنطقة النفطية، ومن المتوقع أن يسهم في تحجيم دور النفط الذي تتمتع به دول الخليج كأداة سياسية، بعد أن كان البترول حاضرًا في اللعبة السياسية بقوة في المنطقة.
وما يزيد الأمر خطورة هو أن التحوّلات الحاصلة في الخريطة النفطيّة الإقليمية والدولية التي تعتبر مصدر قوّة دول الخليج ولاسيَّما السعودية، في طريقها للتغيّر مع توجه الولايات المتحدة لتصبح أكبر منتج للنفط والغاز في العالم العام القادم (زاد إنتاجها بنسبة %50 منذ 2008) بفضل اكتشافات النفط والغاز الصخري.
فيما يتوقع الخبراء أن يصل إنتاج العراق – وهو منطقة نفوذ إيرانية- خلال سنوات قليلة إلى 12 مليون برميل أي ما يفوق مجموع ما تنتجه كل دول مجلس التعاون الخليجي الصغيرة أو إنتاج السعودية ومعها ثاني أكبر منتج للنفط.
مخاوف الخليج
ويزيد من سقف المخاوف الخليجية تحديدا أن أي صفقة أمريكية إيرانية سوف تتيح للأخيرة الاستفادة من الاستثمارات الغربيّة والتقنيات الأمريكية، ما يعني أنّ إيران التي تمتلك ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم ورابع أكبر احتياطي للنفط في العالم ستحتل مرتبة الريادة في هذا المجال.
ولمزيد من التوضيح فان رفع العقوبات المفروضة على طهران أو مجرد تخفيفها وفق صفقة مع الغرب، سوف يمثل روحا جديدة يتم الدفع بها في شرايين الحياة لنظام كان يمثل للغرب عدوا ظاهرا، وصفته أمريكا يوما بأنه إمبراطورية الشر.
فالعقوبات المفروضة على إيران من قبل عدد من الهيئات الدولية تشمل منع بعض الصادرات العسكرية والنووية، والاستثمارات في مجال النفط والبتروكيماويات وصادرات منتجات النفط المكرروالتجارة مع قوات الحرس الثورى وصفقات الصرافة والتأمين، كما تشمل البنك المركزى الايرانى والشحن.
وبالتالى فإن العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران مجرد مرحلة من مراحل إدارة الصراع بوسائل غير عسكرية، لكنها أدت إلى حالة غير مسبوقة من التراجع الإقتصادى في إيران، كادت أن تودى بها إلى حالة من الاختناق والانهيار.
وتشير التقارير إلى أن العقوبات الدولية على إيران بسبب برنامجها النووي تسبب في ارتفاع كبير في معدل التضخم، وفقد الريـال الإيرانى نحو نصف قيمته مقابل العملات الأخرى، كما ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بصورة كبيرة تفوق أكثر من المستوى المعلن رسميا وهو 25% بينما ارتفع سعر الخبز 16 ضعفا منذ رفع الدعم الحكومي عنه في عام 2010.
ويعتقد العديد من الاقتصاديين أنه حتى بدون العقوبات فإن إيران كان من الممكن أن تواجه مشكلات كبيرة، مثل ارتفاع التضخم الناتج عن إنفاق أموال النفط، والدعم الحكومي للمواد الغذائية والمحروقات الذي يثقل كاهل الموازنة ويشجع على الاستهلاك، بالإضافة إلى انكماش القاعدة الصناعية في البلاد، ناهيك عن أن الكثير من أساسيات الاقتصاد الإيراني دمرت خلال الأعوام الماضية.
ومن هذا المنطلق فإن الصفقة المرتقبة بين إيران والغرب والتي يمكن أن تحافظ على إيران كقوة نووية "غير عسكرية"، سوف تعيد إنتاج المشهد في المنطقة وتمنح لطهران قوة مضافة على الصعيد الاقتصادي، وهو ما تنظر إليه إيران باعتباره "قبلة الحياة" لها، فيما ينظر إليه حلفاء الغرب التقليديون على أنه صفعة ربما لا يمكن تعويض خسائرها على المدى القريب.
