هرتلة في القاهرة.. مدينة تشبه ناسها وتُعاش كقدرٍ يومي
لم أكن أخطط لمشاهدة فيلم جديد، ولا لكتابة قراءة نقدية بالمعنى المتعارف عليه.. فأنا لست ناقدًا فنيًا، بل متذوّقًا يسجّل انطباعاته حين يستوقفه عمل ما، أو حين يشعر أن ما يراه يلامس تجربته الخاصة على نحوٍ يصعب تجاهله.
ما زلت أمرّ، منذ نحو أسبوعين، بعارض صحي ثقيل الظل؛ ليس معقّدًا في توصيفه الطبي، لكنه واسع الأثر في تفاصيل اليوم. يقيّد الحركة، ويحوّل بضع خطوات داخل البيت إلى جهد محسوب، ويجعل العكاز ضرورة لا خيارًا.
الألم هنا ليس دراميًا ولا صاخبًا، بل إزعاج يومي عنيد، يدفعني إلى سرقة بعض الوقت حين تخف حدّته، لأحاول القراءة أو الكتابة على مهل، كما لو أنني أستعيدهما مؤقتًا من منطقة بعيدة.
منذ العزل الذي فرضه وباء كورونا، تبدّل إيقاع حياتي دون أن أتنبه مبكرًا إلى كلفته. صرت لا أغادر المنزل إلا للضرورة القصوى، وأمضي ما يقارب عشر ساعات يوميًا جالسًا على كرسي واحد في غرفة المكتب. نمط بدا عابرًا، فإذا به يتراكم ببطء، ويترك أثره على الجسد قبل أن يتركه على الروح، ويذكّرك -حين يحتج- بأن الجسد لا يقبل الإهمال طويلًا.
في مثل هذه الحالة، تصبح القراءة مرهقة، والكتابة فعل مقاومة صامت، فألجأ -كما أفعل أحيانًا- إلى مشاهدة الأفلام القديمة؛ تلك التي لا تطالبك بتركيز كثيف، وتمنحك عزاءً بصريًا مؤقتًا، ومسافة قصيرة من ثقل اليوم.
في إحدى هذه اللحظات، لفتني عنوان فيلم قصير ظهر مصادفة: "هرتلة في القاهرة"، الإسم وحده كان كافيًا لإيقاف العبور السريع.. الهرتلة ليست كلمة بريئة، بل توصيف لحالة، وربما لمدينة كاملة.
قررت المشاهدة، ثم وجدتني -على غير العادة- أعيد الفيلم مرة ثانية، لا لأنني لم أفهمه، بل لأنني شعرت أنه يلامس شيئًا أعرفه جيدًا.. شيئًا يتجاوز الفيلم نفسه، ويقترب من علاقتي بالقاهرة كما عشتها، لا كما تُحكى.
القاهرة.. ليست خلفية بل كائنًا يشاركك العيش
منذ الدقائق الأولى، يتضح أن الفيلم لا يتعامل مع القاهرة بوصفها مسرحًا للأحداث، ولا كخلفية صاخبة تُملأ بالضجيج واللقطات السريعة، بل ككائن حيّ له إيقاعه الخاص، ومزاجه المتقلّب، وذاكرته التي لا تهدأ. القاهرة هنا لا تُقدَّم، بل تُصغي إليك بقدر ما تُجبرك على الإصغاء إليها.
الهرتلة ليست فوضى بلا معنى، بل حالة وعي لمدينة فقدت سرديتها الرسمية، ولم تعد تثق في الحكايات الكبرى، فتركت التفاصيل الصغيرة -الأصوات المبتورة، الحركات العابرة، الصمت المفاجئ- تتولى مهمة الحكي. كأن القاهرة ترفض أن تُشرح أو تُختزل، وتكتفي بأن تكون على طبيعتها: مدينة تُربكك لأنها لا تمنحك إجابات جاهزة.
الفيلم لا يفرض إيقاعًا على المدينة، ولا يحاكمها أو يجمّلها. ينساب معها، يتركها تتكلم بلغتها الخاصة، لغة التراكم والاحتكاك والتناقض، وهي اللغة التي عرفتها القاهرة دائمًا، مدينة لا تُفهم من لقطة واحدة، ولا تُحتمل إلا إذا قبلت هشاشتها بوصفها جزءًا من قوتها.
وسط البلد.. المكان الذي يرفض أن يتحوّل إلى ذكرى
حين يقترب الفيلم من قلب القاهرة، لا يفعل ذلك عبر لقطات بانورامية أو إشارات سياحية مألوفة، بل يتسلل إلى ما يشبه مركز الذاكرة. هنا، في وسط البلد، لا يبدو المكان حيًّا قديمًا بقدر ما يبدو مساحة تختبر قدرتها اليومية على البقاء. عمارات أنهكها الزمن، أرصفة تعرف أقدام روّادها أكثر مما تعرف أسماءهم، ومقاهٍ لا تزال تؤدي وظيفة اجتماعية لا يعوّضها أي بديل مصقول.
هذا هو المكان الذي أسكنه، وأصرّ على البقاء فيه، لا بدافع الحنين ولا رفضًا للتغيير من حيث المبدأ، بل لأن وسط البلد - رغم كل ما طرأ عليه - لا يزال يحتفظ بشيء جوهري: أن تكون المدينة غير مكتملة، تسمح لك أن تراها على حقيقتها، بلا أقنعة ولا واجهات زجاجية.
في "هرتلة في القاهرة"، لا يُقدَّم وسط البلد كتراث محفوظ، ولا كأطلال جميلة، بل كمنطقة تماسّ بين ما كان وما يُراد له أن يُمحى. المكان يقاوم بصمت؛ لا يرفع شعارات، ولا يستجدي التعاطف، لكنه يظل حاضرًا، عنيدًا، يذكّرك بأن المدن لا تموت حين تتداعى مبانيها، بل حين تُفرَّغ من ناسها ومعانيها.
الرموز الثقافية.. حين تتحول الفوضى إلى لغة
ذكاء الفيلم لا يكمن في كثافة رموزه، بل في تواضعها. لا استعارات ثقيلة، ولا إشارات مباشرة، ولا رغبة في إبهار المتلقي بذكاء مصطنع. الرموز تظهر كما تظهر القاهرة نفسها: عابرة، ناقصة، غير مكتملة، لكنها دالّة بعمق.
الكلام غير المكتمل، الجمل التي تُقطع، الأصوات التي تتداخل، الضحكات التي تخفت فجأة… كلها إشارات إلى مدينة لم تعد تثق في الخطابات الكبرى. ثم يأتي الزمن المختلط: لا ماضٍ يُستدعى بوصفه ملاذًا، ولا حاضر يُقدَّم كحقيقة مستقرة. أغنية قديمة، صورة راهنة بلا معنى، ذاكرة تقفز بلا ترتيب.
أما الوجوه العابرة، فلا تُمنح أسماء ولا حكايات مكتملة. لا أبطال ولا نماذج جاهزة، بل بشر يظهرون كما هم، يدبّرون يومهم، ويواصلون الحياة. هكذا تتحول الهرتلة من فوضى إلى لغة بديلة، لغة الهامش، حيث المعنى لا يُفرض، بل يتكوّن من التراكم والاحتكاك.
البعد الاجتماعي.. كشف بلا وعظ
لا يرفع الفيلم شعارات اجتماعية، ولا يتورط في خطاب مباشر، لكنه يكشف القاهرة على نحوٍ أدقّ من كثير من الأعمال الوعظية. هنا، لا تُقال الأزمة، بل تُرى. مدينة تقوم على الاحتكاك الدائم، تفاوت حادّ، وتعايش هشّ، ومسافات قصيرة تفصل بين كل شيء ونقيضه.
الناس لا يظهرون كضحايا، ولا كأبطال، بل كأفراد يحاولون التكيّف مع إيقاع لا يرحم. القاهرة لا تُدان عبر خطاب أخلاقي، بل عبر صمتها. صمت المشاهد الطويلة، وغياب الشرح، وترك التناقضات قائمة دون حل. وهو شكل من الإدانة الصامتة، لكنه الأشد وقعًا.
عين لبنانية.. عشق بلا استشراق
أن تأتي هذه الرؤية للقاهرة من عين لبنانية ليس تفصيلًا عابرًا، بل عنصرًا كاشفًا في بنية الفيلم. الأهم ليس أنها ليست من هنا، بل أنها لم تنظر من خارج المكان. لا أثر لنظرة السائح، ولا لإغراء الفولكلور، ولا لمحاولة تفسير المدينة للقادم من بعيد.
ما نراه هو ألفة حقيقية مع إيقاع المكان، ومع حدوده ومسافاته النفسية قبل الجغرافية. عشق لا يبحث عن الصورة الجميلة، بل عن الصدق. القاهرة تظهر كما هي: متعبة، غير مصالحة مع نفسها دائمًا، لكنها لا تزال قادرة على إنتاج معنى.
ومن هذا الموقع، لا تبدو هذه الرؤية مجرّد زاوية نظر عابرة، بل ثمرة علاقة واعية بالمكان، تعرف متى تقترب ومتى تتراجع، ومتى تترك المدينة تتكلم وحدها. وهي علاقة لا تنفصل عن صاحبة هذه العين نفسها، وخبرتها، وخياراتها الجمالية، وحدود تدخلها بوصفها صانعة صورة تعرف أن الإصغاء أحيانًا أصدق من الشرح.
فرح الهاشم.. عين تعرف متى تصمت
تنتمي مخرجة وسيناريست الفيلم فرح الهاشم إلى جيل من صُنّاع السينما العرب الذين لا يتعاملون مع المدينة بوصفها موضوعًا للفرجة، بل كمساحة معيشة واختبار دائم للوعي. في أعمالها، لا تسعى إلى القبض على اللحظة المبهرة، بقدر ما تنشغل بالتقاط الهشّ، والعابر، واليومي، بوصفه مدخلًا لفهم أعمق للمكان والناس.
خبرتها في السينما المستقلة، واشتغالها على أشكال سردية مفتوحة، يفسّران اختيارها للهرتلة كلغة بصرية لا تخضع لقواعد صارمة، ولا تسعى إلى الإقناع بقدر ما تراهن على المشاركة. هي لا تشرح المدينة، ولا تضعها داخل إطار تفسيري جاهز، بل تتركها تتكلم، وتكتفي بأن تُحسن الإصغاء.
في "هرتلة في القاهرة"، لا تظهر فرح الهاشم كمخرجة تفرض رؤيتها، بل كشاهدة تعرف حدود تدخلها. وربما لهذا بدا الفيلم قريبًا من القاهرة كما تُعاش، لا كما تُتخيَّل؛ رؤية تنبع من معرفة حسّاسة بإيقاع المدن العربية الكبرى، تلك التي تشترك - رغم اختلاف الجغرافيا - في ثقل الذاكرة، وفي التعايش القسري مع التناقضات، وفي القدرة العنيدة على الاستمرار.
لماذا نبقى؟
لا يقدّم "هرتلة في القاهرة" إجابات جاهزة، ولا يدّعي امتلاك الحقيقة عن مدينة عصيّة على الاختزال. ما يفعله أنه يعيد طرح سؤال بسيط ومؤلم: لماذا نبقى في مدن متعبة، غير عادلة أحيانًا، وقاسية في معظم الأوقات؟
ربما لأن بعض المدن لا تُسكن، بل تُعاش كقدر يومي. لأنها، بكل تناقضاتها، تشبهنا أكثر مما نحب الاعتراف. متعبة، صادقة، وعنيدة، وقادرة - رغم كل شيء - على الاستمرار. لهذا نشبه القاهرة بقدر ما نشكو منها. ولهذا يصعب علينا أن نغادرها.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا
