أم كلثوم.. حين تتحول قراءة الرمز إلى تقزيم
ليس الجدل الدائر اليوم حول أم كلثوم دليلًا على حيوية الذاكرة الفنية بقدر ما هو كاشفٌ لاختلالٍ أعمق في طريقة مقاربة الرموز الكبرى.. فحين تُستدعى سيرة بحجمها إلى التداول العام، لا يُطرح السؤال الحقيقي: ماذا صنعت هذه المرأة؟ وكيف شكّلت وجدان أمة؟ بل ينزلق النقاش سريعًا إلى تفكيكٍ جزئي، وانتقاءٍ انتهازي، يساوي بين العابر والمصيري، وبين الهامش والمتن.
القضية هنا ليست دفاعًا عن أيقونة، ولا تبريرًا لإنسانة، بل مواجهة قراءة كسولة تحاول -باسم الواقعية- تقليص تجربةٍ تاريخية مركبة إلى شذرات نفسية أو زوايا مثيرة.. وأم كلثوم، في ميزان التاريخ الثقافي، ليست مادةً للفضول، بل ظاهرة تشكّلت عند التقاء الفن باللغة بالسياسة، وأي سردٍ يتجاهل هذا التعقيد إنما يخطئ الهدف، حتى لو بدا جريئًا.
من الهامش الاجتماعي إلى مركز الذائقة
ولدت أم كلثوم في بيئةٍ فقيرة، ريفية، محافظة، في زمنٍ لم يكن يرحم المرأة، ولا يمنح الفقراء فرصة الصعود إلا بثمنٍ باهظ. لم تدخل عالم الغناء من بوابة النعومة أو الدلال، بل عبر مشقةٍ مضاعفة: مشقة الصوت، ومشقة النظرة الاجتماعية، ومشقة تثبيت الذات في مدينةٍ قاسية كالقاهرة.
ما صعدت إليه لم يكن نجومية بالمعنى السريع، بل تأسيس مقام. مقام للفنانة التي تحمي موهبتها بالصرامة، وتصون حضورها بالوقار، وتبني علاقتها بالجمهور على الاحترام لا على الإثارة. هذا الصعود البطيء، المحسوب، هو ما منحها سلطة رمزية نادرة، سلطة لم تتكئ على الصدفة، بل على وعيٍ حادّ بدورها وحدودها في آن.
الذكاء شريك الصوت
كثيرون يتحدثون عن الصوت الأسطوري، وقليلون يتوقفون عند الذكاء الذي أدار هذا الصوت.. أم كلثوم لم تكن مطربةً عظيمة فقط؛ كانت مديرة مشروع فني بكل ما تحمله الكلمة من معنى. عرفت متى تغني، وماذا تغني، ومن يلحن، وكيف تظهر، وأين تقف من جمهورها ومن السلطة ومن الزمن.
هذا الذكاء هو ما جعلها تتجاوز مصيدة التكرار، وتحافظ على القمة لعقود، دون أن تتحول إلى تمثالٍ يكرر نفسه. لم تكن أسيرة مزاجٍ واحد، ولا رهينة مدرسةٍ بعينها، بل استطاعت أن تُجدّد دون أن تنكسر، وأن تتقدم دون أن تفقد هويتها.
ريادة القصيدة المغنّاة: حين صارت الفصحى شعبية
من أكثر إنجازات أم كلثوم عمقًا وتأثيرًا أنها أعادت الاعتبار للقصيدة العربية في وجدان الملايين.
غنّت الفصحى لا بوصفها ترفًا ثقافيًا، بل بوصفها لغةً حيّة قادرة على الوصول. جعلت مفرداتٍ ثقيلة الوزن، وصورًا شعرية عالية الكثافة، جزءًا من السمع اليومي للناس.
بهذا المعنى، لم تكن مجرد مطربة تؤدي الشعر، بل وسيطًا لغويًا أسهم في نشر الذائقة، وتوسيع المدارك، وتطبيع العلاقة مع لغةٍ كانت تُحاصر داخل النخبة. هذا الدور وحده كفيل بوضعها في قلب التاريخ الثقافي العربي، لا على هامشه.
نموذج الفنانة الرصينة
في زمنٍ تُقاس فيه الشهرة اليوم بالضجيج، تبدو تجربة أم كلثوم درسًا مضادًا.. قدّمت نموذجًا للفنانة التي تُراكم الأثر لا العناوين، وتحمي حياتها الخاصة من الاستهلاك العام، دون ادعاء أو استعراض. لم يكن هذا تزمتًا ولا تصنعًا، بل وعيًا بأن القيمة الفنية لا تُبنى على كشف الخاص، بل على صيانة العام.
هذا النموذج لم يكن انعزالًا عن الناس، بل على العكس: كان مصدر ثقةٍ عميقة، جعل الجمهور يتعامل معها باعتبارها مرجعية فنية وأخلاقية في آن، دون أن تطلب هي ذلك صراحة.
حين اختُبر الرمز ونجح
اللحظة الفارقة في قراءة أم كلثوم ليست في نجاحاتها، بل في اختبارها الأصعب: ما بعد هزيمة يونيو 1967.. هنا خرجت من المسرح إلى معنى الدولة، ومن الغناء إلى الفعل. جابت العواصم، وغنّت من أجل مصر، وخصصت عائد حفلاتها لدعم المجهود الوطني، في زمنٍ كانت فيه الكرامة مجروحة، والروح مثقلة بالانكسار.
لم يكن ذلك موقفًا عاطفيًا، بل قرارًا تاريخيًا: أن يتحول الفن إلى قوة تعبئة، وأن يصبح الصوت موردًا معنويًا وماديًا في آن. هذه اللحظة وحدها تكشف معدن التجربة، وتضع حدًا لأي قراءة تختزلها في السلوك الفردي أو المزاج الشخصي.
فتح الأبواب لا حراسة المجد
الأسطورة الحقيقية لا تخاف الجديد.
أم كلثوم شجعت ملحنين من أجيال مختلفة، وفتحت مساحتها لأصوات موسيقية شابة، وأسهمت في تجديد الأغنية العربية دون أن تتخلى عن معيارها الصارم. لم تكن حارسة مجدها بقدر ما كانت شريكة في صناعة مجدٍ أوسع، يتجاوز اسمها إلى شكل الأغنية ذاتها.
الإنسانة.. دون اغتيال السياق
نعم، أم كلثوم إنسانة.. لكن تحويل هذه الحقيقة إلى أداة لتقزيم التجربة، أو لاختزال المسيرة في نقاط ضعف مفترضة، هو قراءة كسولة، لا نقدًا شجاعًا. الإنسان يُفهم داخل سياقه، لا خارج منجزه. والرمز لا يُفكك بانتزاعه من زمنه، بل بإعادة وضعه في صورته الكاملة، بكل ما فيها من قوة وتناقض وثمن.
ليست معصومة… لكنها معيار
أم كلثوم لم تكن معصومة من الخطأ، ولا تحتاج إلى ذلك كي تظل عظيمة.. قيمتها الحقيقية أنها كانت معيارًا: معيارًا للغناء الذي يحترم اللغة، وللفن الذي يصون وقاره، وللدور الذي يعلو في لحظات الاختبار الوطني.
الجدل الذي يحيط بها اليوم لا يقول شيئًا عنها بقدر ما يقول الكثير عنا: عن علاقتنا بتاريخنا الثقافي، وعن ميلٍ متزايد إلى تفكيك الرموز بدل فهمها، وعن خلطٍ بين إنسانية الرمز واغتيال معناه.
أم كلثوم لا تحتاج دفاعًا، لكنها تستحق قراءة عادلة.. قراءة ترى الإنسان، نعم، لكنها لا تنسى لحظةً واحدة أن هذا الإنسان نفسه صنع صوتًا لأمة، حين كانت الأصوات قليلة، واللغة مهددة، والكرامة على المحك.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا
