رئيس التحرير
عصام كامل

عندما نعى مدير أمن سوهاج أحد ضباطه

ربما يرى الناس ما يتمتع به ضابط الشرطة من نفوذ، فيظنون أن حياته سهلة يسيرة خالية من الصعوبات والتحديات، أو يحسبون أن ذلك دون ثمن! لكن الحقيقة أن الضباط بشر، وما هم فيه ليس ترفًا إنما وسائل تعينهم على التصدي لأخطر المهمات والتعامل مع أصعب الظروف، ثم لابد أن يصيبهم في النهاية ما يصيب غيرهم: الفقد والأحزان والهموم!

 

في ما يلي، نص رهيف، شديد العزوبة والإنسانية، وهو وثيقة أيضًا، كتبها للواء، مدير أمن سوهاج، يرثي فيه ضابطا زميلا، ويكشف عن الجروح التي لا تندمل، والأيام التي تنقش في الذاكرة، والوجع الذي إذا ابتدأ لا يغيب.. النعي كان منذ سنوات وترك أثرا كبيرا في النفوس.

"أن يكبر كل شيء فينا ويبقى القلب طفلا، فتلك منحة ربانية عظمى لا يحظى بها إلا القليلون، إذ تظل قلوب الأطفال أكثر القلوب براءة وبراحا؛ لم تلوثها الأحقاد ولم تتملكها الأغراض ولم تغازلها النزوات، ولم تنل منها صروف الدهر ولا مجريات الزمان، ويبقى أصحابها ملء السمع والبصر والفؤاد يستعصون دائمًا على النسيان..

Advertisements


ففى ظهيرة أحد الأيام الحارة  صيف 2007 كان العميد محمد الرشيدي مأمور قسم أول شبرا الخيمة، يتناول طعام الغداء مع ضباطه في مودة طالما حرص عليها، وبعد انتهائهم شعر المأمور بألم في صدره، نقل على أثره إلى مستشفى النيل المجاورة للقسم، وما أن عاين طبيب الاستقبال حالته حتى أعلن وفاته رحمه الله، وازدحمت طرقات المستشفى بمن وصلهم الخبر، إلا أن مشهدا ظل يسكن ذاكرتي! 


فبينما كان الوجوم يسيطر على كل الموجودين، حضر النقيب مصطفى الإمام هادئا ثابتا، ودون أن يلتفت إلى أحد توجه في جرأة وبراءة الى الجسد المسجى وكشف الغطاء عن رأسه وطبع على جبينه قبلة تنضح بالعفوية والبراءة والنقاء ثم أعاد الغطاء وانصرف بالبراءة ذاتها ينفث دخان سيجارته!


وبقدر ما كان هذا الموقف خاطفا لم يعلق عليه أحد في حينه، إلا أنه كان كاشفًا عن نفس تمتلئ بالحب والنقاء الحقيقي دون مزايدة أو تمثيل أو إدعاء، نفس تمارس الحب والحزن والوداع بطريقتها الخاصة!
 

وها أنا اليوم أعيد المشهد وكأني أرى القبلة التي طبعها مصطفى على جبين الرجل الذي أحبه كانت رسالة يعده فيها أنه سيلحق به عن قريب ولن يطيل عنه الغياب!
 

فذلك ما جال بخاطري بعد أن أنهيت اتصالًا تليفونيا فاجعا جاءني في مغرب يوم السبت الموافق 12/7/ 2013 من أقصى الصعيد بمدينة الأقصر، ولم يزد محدثي عن قوله "البقية في حياتك في مصطفى الإمام" ولم أرد، ولم ينتظر محدثي ردا، ليتركني أمام شريط غني بالذكريات!
 

نعم مات مصطفى الإمام واقفا في مقر عمله كما مات من قبله محمد الرشيدي في مكتبه واقفا، في زمن باتت فيه أمراض المهنة لرجال الشرطة تفوق ما كانت عليه أمراض المهنة لعمال مناجم الفحم في أوربا وإفريقيا في عهود غابرة!
 

مصطفى محمد الإمام صبي كان محط رعاية فائقة من أسرته بوصفه الابن الوحيد بعد وفاة شقيقه الأكبر وهو ابن الخمسة عشر ربيعا، في البداية عاصرته يؤدي امتحان الشهادة الإعدادية بمدرسة بنها الإعدادية حيث كان والده اللواء الفاضل محمد الإمام يعمل وقتها رئيسًا لمباحث القليوبية، ثم عاصرته يؤدي امتحان الشهادة الثانوية أمام لجنة مدرسة أبى تيج الثانوية، بعد نقل والده إلى أسيوط، ثم وجدته ضابطا معي في قسم أول شبرا الخيمة.. 


لقد شب وتغيرت فيه أشياء كثيرة إلا قلبه الطفولي الوسيع؛ هذا القلب الذى لم يعرف حقدا ولا حسدا ولا خصاما ولا كراهية لأحد، فاستحق بجدارة حب كل من يعرفه من رؤسائه ومرؤوسيه ومواطنين تعاملوا معه بل ومتهمين كان يضع في أيديهم القيود ويحبونه ويحرصون على نيل مودته. 

 

لقد مثلت شخصيته نمطا فريدا من العفوية والطيبة وخفة الظل البعيدة عن الاصطناع أو الاستعراض، وكان متصالحا مع كل البشر وشديد التصالح مع نفسه، فكان يشعر بالأمان الدائم في كل ما حوله ومن حوله على نحو جعله إذا نام راح مثل الأطفال ومثل كل الطيبين في سبات عميق، لتصبح مهمة إيقاظه أمرا صعبا جعل زملاءه في بعض الأحيان يصورون مراسم إيقاظه كمادة للتندر، ليصحو بعدها يشاركهم الضحك والسخرية.. 

 

إلا أن نومته الأخيرة كانت تستعصى على جهود كل البشر في الإيقاظ، فلم يستجب "أبو درش" هذه المرة لنداءات وتوسلات محبيه ليترك خلفه قلوبا تنفطر ودموعا لا تجف ودعوات لا تنقطع ولا تكف له بالرحمة والمغفرة وحسن المآب..

وفي مسجد أسد بن الفرات بالدقي حيث أقيم العزاء، كان مصطفى حاضرًا في كل تفصيلاته، في وجوه أصدقائه وإخوته ومحبيه، وفي أقداح القهوة التي تطوف على المعزين والتي كان يعشق تناولها، وفي تلاوة القارئ الشيخ عبد الفتاح الطاروطى المحكمة الرصينة التي أخذ يستعرض فيها قدراته الصوتية في تهدج وخشوع ويتنقل في سلاسة بين مقامات القراءة من البياتي إلى الحجاز ومن الصبا إلى النهاوند، ليختتم التلاوة بدعاء جامع للفقيد، وما إن نطق كلمة "الفااااااتحة" حتى رددتها قلوب الحاضرين قبل ألسنتهم داعين الله المجيب السميع..


فاللهم إنّا نضرع إليك أن تتغمد عبدك برحمتك وأن تحسن نزله وأن تسبغ على أمه وأبيه وأهله لطائف نعمتك وصبرك، اللهم زدهم إيمانا وصبرًا وثباتًا وامنحهم من فضلك عوضًا لا يقدر عليه إلا أنت يا من بيده ملكوت السماوات والأرض..


واللهم يا خير حافظ ويا خير راع ويا خير كاف ويا خير كافلٍ ويا خير كفيل نسألك أن تسبل سترك ورعايتك وكفالتك على طفلة الفقيد وريحانته وقرّة عينه.. ملك صاحبة السنوات الثلاث التي استودعك إياها يا من لا تضيع لديه الودائع..


وعندما يشاء الله وتكبر ملك، وعندما تسأل لماذا مات والدها في مكان يبعد عن منزلهم مئات الأميال، فستعرف أنه كان يؤدي رسالته النبيلة وستدرك أن أباها قد علمها بأسلوب عملي ماذا تعني كلمة وطن، وستفخر أنها قدمت وهي لا تزال تحبو تضحيات يصغر أمامها القابعون على شاشات التلفزة ليل نهار يتشدقون بحب الوطن زورا وبهتانا..

 


وعلى أعتاب سرادق العزاء وقف إخوة الفقيد الذين لم تلدهم أمه، وقد ساد بينهم الصمت وهربت منهم الكلمات، إلا أننا كنا نحاول أن نسترجع ما حدث، وأدركنا أنه بينما تفرقت بنا سبل الحياة وانشغل كل منا بحياته، انسل مصطفى خلسة من بيننا كنسمة رقيقة طيبة وغافلنا جميعا.. و.. مات!"

الجريدة الرسمية