رئيس التحرير
عصام كامل

ثرثرة في فنجان لبن ساخن

ذات صباح هادئ، استيقظ على صوت طقطقة الأمطار على نافذته. قرر أن يحضر فنجانًا من اللبن الساخن ليبدأ يومه بهدوء. وفي خضم تلك اللحظات الهادئة، تسللت الأفكار إلى أعماق الذكريات والأمنيات.

 

خيبات الأمس

هل تعتقد أن الكرة الأرضية ستتوقف عن الدوران لأنك اليوم صادفت نهارًا سيئا؟! يا صديقي، لا أحد ينتبه لانكساراتك، فآلة الحياة تطحن الجميع. حتى إذا توقف أحدهم ليلتقطك حين تسقط، ستلتهمه عجلات الزمن.

 

البكاء بات ملحا نتبل به خيبات الأمس، لنبتلع ريقا جففته الطعنات التي غرستها أياد لطالما صافحناها بشدة. الضحكة كعكة لم نعد نخبزها بعد رحيل الأمهات، والظهر المحني لم يعد بعد رحيل الأب قادرا على إقامته.

Advertisements

 

تلك الليالي التي غاب عنها القمر، لم يكن فيها متخاذلا، بل كان منزويا خلف الشمس يبكي النجمات المتساقطة من فم الزمن. يا صديقي، اصنع من جراحك شطيرة والتهمها، فلا وقت للأحاديث الجانبية وثرثرات المساء.

فاقد الوعي

أحب النباتات بحيويتها وبهجتها حين تنكسر أشعة الشمس على سطحها الأخضر اللامع فتضوي كالزمرد، لكن بعضها مقبض، كتلك الأشجار الطويلة التي كانت تحيط بالمستشفى التي ماتت فيها خالتي. كانت أحب شقيقات أمي إلى قلبي، وكنت أقسم بيني وبين نفسي أنني حين أصير كبيرا سوف أتزوج واحدة من بناتها اللائي لم يكن قد ولدن بعد.

 

أتذكر ذلك اليوم البعيد جدا لكنه لم يغادرني أبدًا، أصطحبتني أمي إلى محطة القطار، وبعد نحو ساعة ونصف نزلنا منه وركبنا سيارة أجرة أدخلتنا إلى قلب المستشفى قاطعة ممرا طويلا تحدده الأشجار الطويلة يمينا ويسارا. 

 

في البداية كان المنظر مفرحا لطفل ولد في صحراء لا يعانق الندى فيها ورقة شجرة، اللهم إلا شجرة واحدة من نوع دقن الباشا، لها أزهار برائحة قوية منعشة تظلل بئرا يمد سكان القرية بالماء العذب بدلا.من مياه الطلمبات الماسخ كطعم الخيار.

 

سبقتني أمي إلى غرفة خالتي بالمستشفى، ثم رحت أجمع بعضا من ثمار الليمون الذي حين تذوقته لسعتني حموضته لكنني أحببته  كتفاح أمريكاني ذي حمرة لامعة. لمحت رجلا طويلا بساقين كأعواد الذرة، فأسرعت إلى غرفة خالتي، وهناك لم أتحمل صدمة رؤية ذراعها المحترق، فسقطت فاقدا للوعي، ولا أظن أنني استعدته لليوم!

اليوم الثامن

فقدت شريفة بصرها وهي في الخامسة، وتقول لأحفادها المتدثرين بحكاياتها في ليالي الشتاء إن سعال أبيها كان كافيا ليبدد خوفها من عفاريت تسكن قصص الجدات، وإن ابتسامة أمها كانت تضيء لها ظلام السنين، وتقسم أنها لم تدرك أنها عمياء إلا بعدما مات والديها. 

 

لدى شريفة سبعة أحفاد من ثلاثة أبناء، أكبرهم شريفة الصغيرة، أولى الأحفاد وأقربهم إلى قلب الجدة، تلك التي باتت عيني شريفة الكبيرة ويديها. إذا مرضت الكبيرة توجعت الصغيرة وشحبت، وإذا ضحكت الصغيرة سر في وجه الكبيرة وانعقد في قلبها فرح. 

 

أول من أمس كانت الليلة الأخيرة للجدة، استعدت حفيدتها وأعطتها صندوقا خشبيا صغيرا، وطلبت منها ألا تفتحه إلا في ليلة عرسها. ماتت شريفة فانفطر قلب شريفة، والتزمت غرفتها لسبع ليال أغرقت فيها بالدموع ذكريات الليالي التي كانت. 

 

وفي اليوم الثامن خرجت من عزلتها وعلى رأسها طرحة بيضاء وبين يديها الصندوق الخشبي الصغير يخرج من بطنه نورا كشعاعي الشمس ينتهي إلى كرتين من الألماس، حين رآهما والد شريفة الصغيرة اتسعت حدقته وأقسم أنهما عيني شريفة الكبيرة.

كل الذين قتلتهم

في الأخبار لا أقرأ أسماء الضحايا ولا أبحث عن أوصافهم، هكذا يمكنني التعايش مع المآسي، حين يظل الإنسان مجرد رقم في دفاتر الدولة وتحقيقات الشرطة ونشرات الأخبار.. كل الذين قتلتهم عاملتهم بلطف، تحريت السرعة في إنهاء حياتهم، وكذلك المهارة في تنفيذ مهمة الخلاص منهم كي لا يتألمون.. 

 

ولم أنظر في عيني أي منهم، كما كنت حريصا دوما على إخبارهم أن الأمر ليس شخصيا، فهذا عملي الذي اتقاضى عليه أجري، كما أن من يستأجرني اليوم لأنهي له حياة شخص ما، ربما يصبح في الغد هدفي وضحيتي، فولائي ليس للأشخاص ولكن لما يدفعوه.. 

 

 

دون مبالغة، لقد صدقني كل الضحايا بل وسامحوني حتى قبل أن تغادر أرواحهم أجسادهم، لقد صدقوا أنني لا أكن لهم عداوة، صدقوا أن الأمر لم يكن سوى مهمة عمل أؤديه بكل ضمير.

الجريدة الرسمية