رئيس التحرير
عصام كامل

غابت القرية يا ابن عمى.. ياله روحنى!!

ذهبت إليها لم أجدها.. ظننت أننى تائها عنها بغيرها.. أبحث في الوجوه لا أجدها.. الملامح غريبة وجامدة والابتسامات باردة وباهتة.. أبحث عن المباني والدروب لا أجدها.. أبحث عن الخضرة والغيطان.. أجد بقاياها مختبئة على استحياء هنا وهناك.. 

 

لا أثر للقرية إلا نادرا من بعض الدور القديمة المبنية بالطوب اللبن.. أبحث عن النهر لا أجده إلا بصعوبة بعد أن اختفى وراء بعض العلب الأسمنتية.. أبحث عن البهائم والحمير في الغيطان والطرقات.. لا أجدها.. حل  محلها التروسكيل والتوكتوك.. أبحث عن المحراث.. أجده  نسيا منسيا وحل محله الجرارات والعزاقات الميكانيكية، رغم أن مساحات الأراضى  في قريتى قليلة بالقراريط وليست بالأفدنة.. لكن فين الوقت؟! يقولها شاب مستغربا كلامى، وهين قرشك ولا تهين نفسك.. يستكمل كلامه!

السواقي وصديق الفلاح


كل حين وحين.. أبحث عن الساقية أو البقرة أو الجاموسة التي تدور قودايسها  وهى مغماة العينين حتى لا تدوخ من اللف.. أجدها فقط في المخيلة وبقايا ذاكرة قديمة.. حلت محلها مواتير المياه الثابتة والمنقولة التي تعمل بالكهرباء أو بالديزل.. 

 

أبحث بدأب عن أبو قردان  صديق الفلاح  بلونه الأبيض الناصع ومنقاره الممتد وأرجله الطويلة.. يرد على أحد الشباب: مين أبو قردان ده؟ فيتدخل آخر بوصفه عالما ببواطن الأمور: المبيدات التي ترش على الزرع قتلته!
 

في الذاكرة كان الأجداد يستيقظون في الفجر، يصلونه جماعة أو فرادى ويسحبون بهائمهم إلى الغيط بعد أن يقوم النسوة بحلبها، ويركبون حميرهم إلى الغيط  ومعهم الفأس وعدة  الشاي.. صحوت مبكرا وصليت الفجر وانتظرت المشهد المحفور في الذاكرة.. وجدت عددا قليلا في المسجد لا يتجاوز الخمسة، قلت في نفسى تلاقيهم بيصلوا في بيوتهم.. وسيظهرون بعد قليل، فانتظرتهم في الطرقات.. لم أجدهم ولم يظهروا.. 

 

شقشق النهار وصحت الشمس من مخدعها وغسلت وجهها في النهر.. ولم أجد إلا واحدا أو اثنين.. ورجال وشباب القرية في سبات عميق.. عندما سألت أحد القدامى مثلى رد بسخرية: بيصحوا العصر والكويس منهم بعد الظهر، أصلهم معذورين.. قالها ساخرا بعد أن مط شفتيه.. لم أفهم قصده.. سألت بسذاجة بدت آثارها على وجهه من جهلى قائلا: الكل سهران أمام الدش والنت.. يعنى ح يقطعوا نفسهم!


زلع الصباح والفرن البلدى


في المخيلة القديمة.. الفتيات والنسوة كن يخرجن في الصباح الباكر يملأن الزلع من ماء النهر وهو يفتح عيناه.. تغير المشهد وتبدل.. وجدت العديد من الفتيات والنساء يحملن أقفاص من الجريد في الصباح الباكر.. ولم أنتظر كثيرا حتى أعرف السر.. فقد وجدت أحداهن قادمة حاملة على رأسها القفص وفوقه تتراص أرغفة الخبز من الطابونة.. وهى الفرن  البلدى الذى أفتتحه أحد الأغراب الذين وجدوا لهم أماكن كثيرة  للرزق في قريتى..


المهم سألت عن الأفران الطينية القديمة، كانت الإجابة من القدامى: إن البعض استبدلها بأفران البوتجاز قبل ان تغادر الى مثواها الأبدى، أما ما يسكن الذاكرة من الافران الطينية فأصبحت نسيا منسيا.. ياه على زمان.. كانت الحاجة الحلوة عبارة عن  كام  زر بطاطا مشوى على بلاطة  الفرن أو مدفوس في  النار المتقده في مدخل الفرن بعد الخبيز، أو صينيه بسيسه أو رز معمر في الفرن!


الحزن والفرح في القرية


كانت القرية تغرق في بحر الحزن وتتشح النساء بالسواد عند وفاة أحد أبناء القرية، سواء كانت القرابة مباشرة أو حتى من بعيد أو من الجيران.. كانت القرية كلها من دم واحد وإن تعددت الوجوه وابتعدت المسافات.. كانت جلسات العتاب  والزعل وموجات الغضب تتناثر هنا وهناك لمجرد قيام احدى السيدات بطبخ محشى كرنب أو قلى سمك أو قرنبيط... باعتبار ذلك من مظاهر الفرح، أما الأفراح فكانت تؤجل عاما كاملا.


الآن تتم مراسم دفن الموتى أو تلقى العزاء في شارع والشارع الآخر به فرح، في القرية الواحدة عدة سرادقات للعزاء واكثر منها للأفراح في وقت واحد.. ليه كده؟
الإجابه جاهزة وباردة مثل الثلج: الحى أبقى من الميت.. والحزن في القلب مش في الأكل، وعمر لبس الأسود م يرجع ميت.. والفرح كان متحدد قبل الوفاة، وده جه على ده!


ووصل الأمر في أحد سرادقات العزاء كان المعزيون يستعجلون المقرئ في الانتهاء من ربع  تلاوة القرآن، من أجل اللحاق بمشاهدة مبارة كرة قدم ستبدأ بعد نصف ساعة.. أه والله.. وأنفض السرادق إلا من بعض العواجيز وأهل الميت.. استغفرت الله في سرى ردا على الشيطان الذى وسوس لى بأن أهل الميت  كانوا يتمنون مشاهدة المبارة لأن الحى أبقى من الميت!

 


والأفراح لم تعد بالزفة البلدى ورقص الأحصنة أو الرقص بالعصى للرجال وبعيدا عن أفراح السيدات والبنات.. الكل يرقص الآن على أغانى المهرجانات ويختلط البنات بالشباب ويرقص الجميع ويتمايلوا على أغانى الدى جى وهاتى بوسه يابت! ولم تعد شوارع القرية أو دوارها أو ساحاتها  مناسبة للأفراح.. الكل يحجز قاعات للأفراح في  المدن الكبرى بالمحافظة وبعشرات الآلاف من الجنيهات!
وللحزن والفقد والذكريات بقية!
yousrielsaid@yahoo.com    

الجريدة الرسمية