رئيس التحرير
عصام كامل

ثقافة سيدنا المقموص

لا أدري إلى متى سيظل المسؤولون في مصر ينظرون إلى الكتاب والصحفيين وأصحاب الرأي على أنهم أشخاص مارقون يسيرون عكس التيار، غير مرغوب في تواجدهم أو الكشف عن أيه معلومات أمامهم، وكأنهم عملاء لجهات أجنبية معادية، على عكس ما هو سائد في العالم المتقدم، الذي يعتبرهم أصواتًا وطنية خالصة، وجزءًا أصيلًا لا يتجزأ من كيان النظام.

فقد ساقني القدر منذ أيام إلى جلسة ودية جمعت عددًا من الأصدقاء من مختلف التخصصات والتوجهات، صادف أن تواجد بينهم مسؤول على قدر كبير من الأهمية، ويتولى قمة القيادة في واحدة من المؤسسات المهمة في مصر، سبق أن تناولت سياساته بالنقد في عدد من مقالاتى السابقة.

ولأنها كانت المرة الأولى التي التقى فيها ذلك المسؤول وجها لوجه، فقد أثرت التحفظ وعدم التطرق إلى أية موضوعات سلبية أو إيجابية تتعلق بالشأن العام، والتي لا ينقطع الحديث فيها حتى في المقاهي، مفضلًا كعادتى في تلك التجمعات، إثارة الذكريات والأحاديث الطريفة التي جمعتنا على مدار سنوات.

غير أنني لاحظت تجهمًا وغضبًا وانفعالًا غير طبيعى طغى على وجه ذلك المسؤول منذ اللحظات الأولى لتواجدي، مما جعلنى أتعمد تجاهله، تجنبا لأى حوار قد يفسد جو الود والحب الذي دائمًا ما يطغى على مثل تلك التجمعات.

وعلى الرغم مما هو معروف عنه من اتزان وحكمة، إلا أنه بدأ كأغلب المسؤولين الذين يضيقون صدرًا بالنقد وكأنهم يوحى إليهم أو لا ينطقون عن الهوى، وبادرنى أمام الجميع بحدة قائلا: ما السر وراء هجومك وترصدك الدائم بقراراتنا وسياساتنا الاقتصادية، وكأننا لا نفعل شيئا أو نسير عكس التيار؟

 

حق النقد وتصحيح المفاهيم

ولأن السؤال خرج مصحوبًا بلهجة غاضبة جعلت الصمت يخيم على المكان، فقد كان لابد أن استقبله بهدوء شديد، وقلت مبتسما: يبدو أن سعادتك متابع جيد.

قال: نعم يصلنى مقالك بشكل أسبوعى وأقرأه، ولا أجد سببًا لتناولك الدائم لسياسات الحكومة بالنقد؟
قلت: بالطبع أشكرك على حسن متابعتك، ولكن هل رصدت فيما أكتب كلمة أو حتى تلميحا يحوى سبا أو قذفا أو تجريحا لمسؤول؟
قال: لا، لكنك تستخدم عبارات حادة وصريحة يكون وقعها أشد ألما من السب والقذف.

قلت: وبصرف النظر عن العبارات الحادة التي أغضبتك، والتي تأتي في الغالب طبقا لحجم وطبيعة وأهمية القضية وتأثيرها على المواطن، ولا تعد جريمة أحاسب عليها قانونا، هل رصدت معلومة خاطئة، أو رقما واحدا به مبالغة أو تضليل، أم معلومة صحيحة وأرقام رسمية صادرة عنكم وعن جهات حكومية مشهود لها بالنزاهة؟

قال: أعلم أنك تتناول قضايا جوهرية تمس الشارع، غير أنك لا تتخيل حجم الضغوط والظروف الصعبة التي نعمل بها، وهو ما يشعرني بأن هناك تربصا.
قلت: أعلم ما يغضبك، غير أنه كيف لك أن تسميه تربصا، وقد أثنيت في كثير من مقالاتي على كثير ما قدمته الحكومة من إنجازات في شتى بقاع مصر خلال السنوات الماضية.

كما أن نقدى لا يتناول سوى قرارات وسياسات معلنة كان لها مردود سلبى على الاقتصاد الوطني والمواطن الفقير، وهو حق أصيل لى كصحفى وكاتب رأى، وكثيرا ما يلقى صدا لدى المسؤول.

سيدى هناك فرق شائع بين النقد والسب، وبين النقد البناء ونقيضه الهدام الذي يستخدمه إعلام الخارج الممول لإسقاط هذا البلد لأغراض جماعات وتيارات، غير أننا مصريون وننتقد من الداخل ومن دافع وطنى مجرد لا يخضع لهوى جماعة أو تيار أو فصيل، وننشر عبر منابر وطنية محترمة في الداخل لا تسمح بأدنى تجاوز إن وجد.

للأسف أن المسؤول الرفيع لا تختلف ثقافته عن كثير من المسؤولين المصريين الذين تضيق صدورهم بالنقد، ويعتبرون الصحفيين والكتاب وأصحاب الرأي الآخر متربصين وعملاء، على عكس السائد في كل دول العالم المتقدم، التي تعتبرهم جميعا جزءا أصيلا من النظام، وأصواتا وطنية ترصد الأخطاء والفساد والفاسدين لأهداف وطنية خالصة.

أعتقد أن كم الأحداث والتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدها العالم ومازالت، تفرض على أغلب المسؤولين ضرورة نبذ سياسة الإقصاء، والانفتاح بصدر رحب على الرأى الآخر ولفظ ثقافة سيدنا المقموص.. وكفى.

الجريدة الرسمية