رئيس التحرير
عصام كامل

الأنا بداية الطريق للهلاك

تكمن المشكلة في عبادة الذات وتضخيمها بالإسراف في قول الأنا وأول من قالها -كما ينص القرﺁن الكريم– إبليس عندما أمره الله بالسجود لأدم فأبى، فسأله الله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ). ومنذ ذلك الحين بدأ التعاظم بالذات، وبدأ الانفصال عن الكون المتكامل المتوازن، وورث خلق كثير من بني ﺁدم هذه الكلمة وتعاظموا بها وتاهوا وأسسوا المعابد والقصور لتعبد ذواتهم لأن الدماء الإلهية تسري في عروقهم..

 

وشيدوا التماثيل ونشروا صورهم في كل المحلات وعلقوها على جميع الجدران، وقتلوا كل ذبابة تطن أثناء حديثهم، وقطعوا حبال كل من رفع صوته أمامهم

 والقرﺁن الكريم يعيد إلى الأذهان قول فرعون الذي سأل موسى عليه السلام: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) ليبين أن مصدر الكفر واحد، وهو تضخيم الأنا والتعالي بها على كل شيء حتى على الله، ولهذا قال تعالى عن الكافرين في كل زمان ومكان: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [ سورة النمل ]..

 

فقد جمعوا بين الجحود والكفران مع يقين أنفسهم بالحق تعاليا بذواتهم وتعاظما بها.

 كما يقص القرﺁن الكريم علينا من أنباء هؤلاء، ومنهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

الأنانية وعبادة الذات

 

ولهذا نرى أن كل من قال أنا في القرﺁن الكريم من الكفرة يقولها متعاظما مهما اختلف نوع تعاظمه، ولعله لأجل هذا وردت كراهة التلفظ بهذه الكلمة لغير ضرورة، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال من ذا فقلت أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أنا قال الراوي: كأنه كره قوله أنا).. وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى إن هلاك المرء ذكر في القرآن الكريم بشيئين اثنين: بحبّ الأنا المدمر والعندية القاتلة، فأمّا الأول فقول الله تعالى على لسان فرعون (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الاعلي) فهو تحدث بفرعونيته وحاكميته عن ذاته بما ليس فيها فوصفها بالربوبية العليا، قال: “مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي”..

 

وأما العندية القاتلة ما جاء على لسان قارون الذي قيل له أذكر فضل الله عليك ونعمه فأغدق عليك من النعم الظاهرة والباطنة وزادك مالا (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)، (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي).. ولم يعرف لله تعالى حقه، إذ الله سبحانه وتعالى هو الواهب، وانظروا إلى هذا الكلام الذي قاله فرعون يعلي من شأن نفسه، ويلغي الآخر، عندما قال: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).

 

إذ جعل نفسه خيرًا من غيره، بل وصف الغير والآخر بأوصاف لا تليق، ظن هذا المغرور بأن فصاحة لسانه تغنيه عن فصاحة قلبه، وحكمه وملكه يغني عن القلب النظيف واليد السليمة، وعن الفكر النيّر وعن الوحي، فظن بذلك هذا الظن الذي أرداه فجعله من الخاسرين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بأن من مهلكات آخر الدهر إعجاب كل ذي رأي برأيه بحيث لا يُبقي للآخرين شيئا..  

 

وهكذا فإن عبادة الذات خطر على المجتمع والجماعات، فأينما وُجِدَ الأنانيون تحوّلوا إلى أزمة ومشكلة.. إنّ مظاهر التعبير عن عبادة الذات كثيرة.. ويتحدث القرآن عن الحسد كأحد أبرز مظاهر الأنانية.. والحسد كما يُعرِّفه علماء الأخلاق هو: (تمنِّي زوال نعمة من مستحقّ لها). إنّه تمنِّي زوال نعمة الآخرين؛ ليكونوا أقل منه، أو ليتراجعوا، ويخسروا ما عندهم، فيكونوا مثله، إن كان فاقدًا للصحة أو الولد أو المال أو الجاه، أو الموقع... إلخ.     

 

ويتحدث القرآن عن أبرز تجسيد للأنانية وعبادة الذات في قصة يوسف مع إخوانه: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) (سورة يوسف).

 

 

وعندما تستحكم سيطرة الأنا والأنانية على الذات، وتُصاب الشخصية بمرض النرجسية وعبادة الذات، يتحوّل سلوك هذه الشخصيات إلى ردود أفعال، وتعامل منطلق من هذه الرؤية، عندما يستولي الغرور والكبرياء على ذاته وتصرفاته، فيتحوّل إلى طاغوت في أعماقه.. حتى وإن كان لا يملك إمكانات الطاغوت بمعناه  الاستبدادي ويتحدّث القرآن عن بعض مصادر هذه الظاهرة فيعرضهم بقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).

الجريدة الرسمية