رئيس التحرير
عصام كامل

مراقد آل البيت ومشاهد الصحابة في حضن الإهمال (17)

قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد.. جريمة مروعة نفذها بلطجية بالتواطؤ مع بعض موظفي أجهزة المحليات، في عهد بائد. أما التفاصيل فتقول إن بعض الجاهلين بأهمية مراقد الصالحين والعلماء وآل البيت طمعوا في مساحة من الأرض قرب منطقة الدراسة.. المشكلة كانت أن تلك الأرض عبارة عن مدفن، به مقامات عدد من أكابر العلماء العاملين، والأولياء العارفين.

بحثوا عن أي وسيلة ينفذون منها لتنفيذ مخططهم الخبيث في الاستيلاء على الأرض.. ساعدهم في ذلك أن الأضرحة لم تكن مسجلة كآثار.. تلك الأزمة التي تحدثنا عنها في مقال سابق.

وفي ليلة مشئومة، قرروا بدء المؤامرة.. جمعوا عددًا كبيرًا من البلطجية، والمسجلين خطرين، أعلنوا وأذاعوا ونشروا بين سكان المنطقة، أن تلك الأضرحة لا توجد بها جثامين، وأنهم سيثبتون ذلك.

 

هدم المقامات، والأضرحة

 

قام البلطجية بهدم المقامات، وشواهد الأضرحة، التي تعد رموزًا تاريخية، وبدأوا بحفر القبور، ونبشوها في تصرف تأباه كل الأديان، وينبذه ديننا الجنيف، فأخرجوا بعض الجثامين، ومنها ما هو بحالته كيوم وضع في اللحد! وهذا إثبات أن أصحابها من الصالحين، بل ووجدوا أحدها مدفونًا عند قدمي آخر.

 

وكتب التاريخ تروي أن أحد أصحاب هذه الجثامين هو الإمام المحدث والحافظ الكبير أبو الفضل زين الدين العراقي، والمدفون عند قدميه هو ابنه الشخ أحمد. وبعدما تم لهم ما أرادوا، شرعوا في إنشاء عمارة سكنية مكان الأضرحة الطاهرة!

 

وفي السطور التالية نسوق جانبًا من سيرة حياة هذا الرجل العظيم، لنعرف مدى بشاعة الجريمة التي ارتكبت.

 

مولد الشيخ العراقي

 

ولد الحافظ العراقي في 21 جمادى الأولى من سنة 725 في حيّ يقال له منشية المهراني، ويقع على النيل بين مصر القديمة والقاهرة، أما والده الحسين بن عبد الرحمن، فهو كردي، وكان شابًا تقيًا فرغ نفسه لخدمة الصالحين من المشايخ والعلماء، واختص بالشيخ تقي الدين القَنائي، محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الرحيم، المولود بقوص سنة 645 والمتوفى بالقاهرة سنة 728، وكان تقي الدين شيخ خانقاه رسلان بمنشية المهراني، ولما كانت أم الحافظ العراقي في المخاض بشر الشيخ القنائي والده بولادة ابنه عبد الرحيم، وقال له: سمِّه عبد الرحيم.

يعني باسم جد القنائي الأعلى؛ الشيخ عبد الرحيم القنائي، المتوفى سنة 592، وكان من كبار الصالحين بصعيد مصر، ففعل وسماه عبد الرحيم.

 

الشيخ تقي الدين القنائي

 

وتوفي الوالد سنة 728، وبقي عبد الرحيم في كنف الشيخ تقي الدين القنائي، وحفظ القرآن الكريم وله من العمر 8 سنين، وحفظ كتاب "التنبيه في الفقه الشافعي" لأبي إسحاق الشيرازي، وأكثر كتاب الحاوي الصغير في فروع الفقه الشافعي، والإلمام بأحاديث الأحكام لابن دقيق العيد، وتوجه عبد الرحيم في أول أمره لدراسة القراءات واللغة العربية، فأخذ عن عدد من علمائها، وانهمك في علم القراءات، حتى نهاه عن ذلك قاضي القضاة عز الدين ابن جماعة، فقد قال له: إن القراءات علمٌ كثير التعب قليل الجدوى، وأنت متوقد الذهن، فينبغي صرف الهمة إلى غيره. وأشار عليه بالاشتغال في علم الحديث، فأقبل حينئذ عليه وطلب بنفسه وذلك في سنة 742.

 

برع في سائر العلوم كالفقه وأصوله والعربية والبلاغة، وأذن له غير واحد من شيوخه بالإفتاء والتدريس، وظهرت نجابته ونباهته واشتهر فضله وعقله، مع حسن خُلُقه وخَلْقه، وشرف نفسه وتواضعه، وأمانته وعفته وضيق حاله وكثرة عياله، ودرَّس وهو شاب في حياة أبيه.

وفاة الحافظ العراقي

 

في الثامن من شعبان من سنة 806 توفي في القاهرة، عن 81 سنة، الإمام المحدث والحافظ الكبير أبو الفضل زين الدين العراقي، عبد الرحيم بن الحسين العراقي، حافظ عصره وأحد كبار بناة علم الحديث وترتيب قواعده وأصوله.

 

ولما توفي الحافظ العراقي، أضيفت وظائفه إلى ابنه أبو زرعة أحمد ابن الحافظ، وكان مجلس الإملاء الحديثي قد انقطع بوفاة الوالد، فشرع الابن أبو زرعة فيه في سنة 810، وفي سنة 824 توفي قاضي الديار المصرية جلال الدين عبد الرحمن البُلقيني، فعينه الملك الظاهر محله في قضاء مصر، فسار فيه أحسن سيرة بعفة ونزاهة وحرمة وصرامة وشهامة ومعرفة، فسر الناس بولايته..

 

 

 أما أهل الدولة فكرهوه لتصميمه على الحق وعدم مداراته لهم، فلم يدم أبو زرعة أحمد ابن الحافظ في المنصب سوى 10 شهور، وجيء مكانه بمن هو دونه في الفهم والحكم، وتوفى أبو زرعة سنة 826، بعد أن أملى أكثر من 1000 مجلس علم، وله مؤلفات قيمة في الحديث والفقه والتفسير منها: البيان والتوضيح لمن أخرج له في الصحيح وقد مُسَّ بضرب من التجريح، والمستفاد فى مبهمات المتن والإسناد، وتحفة التحصيل فى ذكر رواة المراسيل، وأخبار المدلسين، وشرَحَ كتابَ والده طرح التثريب وأورد فيه فوائد عن والده في الفقه والحديث.

الجريدة الرسمية