رئيس التحرير
عصام كامل

إنْ بدتْ عينُ الخيانة أشعلتُ نيراني

هل يُصبحُ الماءُ الجسورُ وليمــةً/ للشامتين على ثُـرى جُثمــــاني؟‏ هل يخفتُ الضوءُ العتيقُ‏ وتختفـي/ فوق السنابل فرحــة الأغصـان؟‏/ ماذا سيبقي للحيـاة إذا اختفـــــي وجهي‏/ وسافر في دُجى النسيان؟‏/ أأكــونُ تاريخـًا‏ تــوارى باكيـًــا/ بين السفوح ولوعة الأحـزان‏‏؟‏ نصًا من قصيدة: "النيل يرفع راية العصيان" للشاعر الكبير فاروق جويدة. تساؤلات جويدة تعكس جانبًا من الملهاة / المأساة التى يتعرضُ لها نيلُ مصر فى الآونة الأخيرة من بعض الطامعين ومن يدعمونهم من الشامتين والكارهين لمصر بالسليقة!

إنْ بدا النيلُ باكيًا متألمًا فى أبيات فاروق جويدة، فإنَّ مِصرَ هِبة النيل، قادرة على حماية سر الحياة، وصيانته ضد كلِّ غاشم وغشيم وآثم وأثيم. يمتلكُ النيلُ الخالدُ ثقة كاملة فى صدِّ الأعادى الذين يخططون لقطع الطريق عليه، كما أنشد فاروق جويدة فى القصيدة ذاتها: يومًا غرستُ على الضفافِ مهابتي/ ورفعتُ في قمم الجبـال مكانـي/ ماءً طهورًا للصلاة/ فــــإنْ بــــدتْ عينُ الخيانة أشعلــتُ نيرانـي/ في واحتي تبدو الطيـور أليفـة/ لكنها أُســدٌ على العـدوان/ كم صِرتُ نارًا حين راوغنـي العدا/ ورأيتُ طيف الغــدر في سجَّـانــي.

مخططات غادرة

في كتابه الأهمِّ: "شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان" يتحدثُ جمال حمدان عن مصر ونيلها قائلًا: "مصر أقدم وأعرق دولة في الجغرافيا السياسية للعالم، غير قابلة للقسمة على اثنين أو أكثر مهما كانت قوة الضغط والحرارة. مصر هي "قدس أقداس" السياسة العالمية والجغرافيا السياسية". جمال حمدان تنبأ قبيل وفاته منذ 29 عامًا بأنْ تتعرضَ مصرُ لمخططاتٍ غادرةٍ، حيث قال: "إنَّ مصرَ إذا لم تتحرك لكي تكون قوة عظمى تسود المنطقة بأسرها، فسوف يتداعى عليها الجميع يومًا ما، أعداء وأشقاء وأصدقاء أقربين وأبعدين"، مُردفًا: "ظهر لمصر منافسون ومطالبون ومدّعون هيدرولوجيًا. كانت مصر سيدة النيل، بل مالكة النيل الوحيدة - الآن فقط انتهى هذا إلى الأبد، وأصبحت شريكة محسودة ومُحاسَبة ورصيدُها المائي محدودُ وثابتٌ وغيرُ قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص"!! 

ورغم ما تكتنفُ أشعار فاروق جويدة واستشرافات جمال حمدان من نبرة تشاؤم زاعقة غاضبة، دافعُها الأولُ والأخيرُ الخوفُ على مُقدراتنا المائية حاضرًا ومستقبلًا، إلا أنَّ مِصرَ تدير الأزمة بكثير من العقلانية والرشد وضبط النفس وترفض استدراجها إلى سيناريوهات شيطانية، أما إذا تطلب الأمر أبعد من ذلك، فإنها كانت ولا تزال قادرة أيضًا، مدعومة بعناية السماء، على الحفاظ على حقوقها المائية التاريخية وكسر أنوف من خططوا ودبروا لإلحاق الأذى بها وبشعبها، كما نظم شاعرُ النيل حافظ إبراهيم من قبلُ: ما رَماني رامٍ وَراحَ سَليمًا/ مِن قَديمٍ عِنايَةُ اللَهُ جُندي. 

على مدار التاريخ.. منح نهرُ النيل مصرَ من الرخاء والسعادة ما يشجعها على صد الأعادى، ومقاومة طوارئ الدهور، حتى إن اليونان والرومان لم يجحدوا ما للنيل من القوة الفعالة في المزايا العمرانية التي اختصَّتْ بها تربة الأراضي المصرية، وأتى العربُ بعدهم فأجادوا وأبدعوا في وصف النيل والتحدث بمواهبه، فها هو صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي يتساءل: لِمَ لا أهيمُ بمصرَ وأرتضيها وأعشقُ/ وما ترى العينُ أحلى من مائِها إنْ تدفقَ. 

 

 

فيما أنشد ابن سلام فى حُب النيل قائلًا: لعمرك ما مِصرُ بمصرٍ/ وإنما هي الجنة العُليا لمن يتذكرُ/ وأولادُها الولدانُ من نسل آدمَ وروضتُها الفردوسُ والنيلُ كوثرُ. أما الشريف العقيلي فنظم: أحنُّ إلى الفسطاط شوقًا/ وإنني لأدعو لها أنْ لا يحلَّ بها القطرُ/ وهل في الحيا من حاجةٍ لحياتها/ وفي كلِّ قَطر من جوانبها نَهرُ/ تبدت عروسًا والمقطمُ تاجُها/ ومن نيلها عقدٌ كما انتظم الدُرُّ. 

وعودٌ على بدء، فإنَّ نهر النيل أقسم على نفسه- ونحن مُصدقوه- بالخلود والبقاء كما جاء فى أبيات فاروق جويدة: رحلَ الزمانُ وما برحتُ مكانــــي/ فأنا الخلود‏ ومالديكــم فـانٍ..

الجريدة الرسمية