رئيس التحرير
عصام كامل

الطريق لأول دستور مصري.. البداية مع الحملة الفرنسية..الملك فؤاد يمنع دستور 23 بسبب مادة "يملك ولا يحكم".. دماء شباب ثورة 53 تجبر الملك على إعادة الدستور

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

عدة محطات مهمة سبقت أول دستور مصرى، والذي صدر عام 1923، فعندما جاءت الحملة الفرنسية لفتت الانتباه إلى أن الدستور يعد أهم الإصلاحات الأوربية التي ساعدت على تنظيم العلاقات بين الحاكم والمحكوم.

 ثم جاء محمد على واستوعب الدرس من التجرية الفرنسية والأوربية بشكل عام فأسس المجلس العالى وهو النواة الأولى للبرلمان، ثم أصدر أول بذرة للدستور المصرى الحديث، ثم أوفد رفاعة رافع الطهطاوى إلى فرنسا فقام بعد عودته بترجمة الدستور الفرنسى ليعرف الشعب لأول مرة مفهوم الدستور.

وفى آخر عصر الخديو إسماعيل صدر أول دستور مصرى ولكنه كان غير مكتمل لأنه لم يشتمل على علاقة الحكام بالشعب وتنظيم اختصاصاتهم.. وعقب دخول الاستعمار الإنجليزى لمصر قام بإلغاء هذا الدستور الوليد إلى جانب مجلس الشورى وغيره من مؤسسات الحكم الدستورى وظل الشعب المصرى يكافح من أجل إعادة هذا الدستور حتى تحقق لها ذلك بعد تصريح 28 فبراير1922، والذي أنهت بمقتضاه بريطانيا حمايتها على مصر واعترفت بها دولة مستقلة ذات سيادة، وبناء على هذا التصريح عادت وزارة الخارجية المصرية للعمل وبدأ إنشاء برلمان يحق له الإشراف والرقابة على أعمال الحكومات، وهو ما استوجب التفكير في وضع الدستور الذي ينظم هذه الأعمال والفصل بين السلطات.


وبناء على ذلك عهد الملك إلى عبد الخالق ثروت باشا بتشكيل الحكومة الجديدة في 1 مارس1922، وكانت المهمة الرئيسية التي أسندها الملك إلى الوزارة هي إعداد دستور للبلاد.

وبعد شهر من تاريخه وفى 3 إبريل 1922 تم تشكيل لجنة لوضع الدستور برئاسة حسين رشدى باشا، وأحمد حشمت باشا نائبا له، وتكونت اللجنة بعد ذلك من ثلاثين عضوًا، ولذلك سميت بلجنة الثلاثين وضمت في عضويتها عددا كبيرا من المفكرين وذوى الرأى ورجال القانون والعلماء ورجال الدين والأعيان والتجار والماليين ومن الأسماء التي شاركت في اللجنة يوسف باشا وأحمد طلعت باشا وإسماعيل أباظة باشا، كذلك الشيخ محمد نجيب «مفتى الديار المصرية آنذاك» كما ضمت الأنبا يوأنس ويوسف قطاوى باشا «عن الطائفة اليهودية» وعلى ماهر وعبد العزيز فهمى وغيرهم من كبار رجال الدولة.

وتم الانتهاء من وضع الدستور ورفعه للملك فؤاد يوم السبت 21 أكتوبر1922، ولكن الظروف حالت دون إعلان الدستور نظرا لحوادث الاغتيال المجهولة التي تعرض لها مجموعة من السياسيين والإنجليز، لكن هذا الدستور رفضته بعض الأحزاب باعتباره صنيعة الحكومة والملك وليس من وضع أبناء الشعب، وكان على رأس الرافضين حزبا «الوفد» و«الوطن»، وكانا يريان أن يتم تأسيس البرلمان وانتخاب الجمعية التأسيسية التي بدورها تضع الدستور طبقا لإرادة الشعب، ومرة أخرى يعيد التاريخ نفسه، فنفس هذا الجدل يعود بعد ثورة 25 يناير بين أعضاء البرلمان والقوى الليبرالية وغيرها من فئات الشعب والتي ترى تشكيل اللجنة من داخل البرلمان أو من خارجه.

كما كان الملك فؤاد غير راض عن اختصاصاته في الدستور، حيث وضعت اللجنة اختصاص الملك كما هو في بريطانيا ونص على أن الملك يملك ولا يحكم، وهو ما رفضه الملك رفضا تاما، وطالب اللجنة بأن تعدل هذا البند وتختار بين اختصاصات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أو الرئيس لينين في روسيا، وهو ما أدى في النهاية لاستقالة وزارة ثروت باشا ولم يصدر عنها الدستور.

ولم يجد الملك فؤاد مفرا من تكليف رئيس ديوانه محمد توفيق نسيم باشا بتشكيل الوزارة حتى يضمن تعديل بنود الدستور كما يرغب، وشرعت الحكومة بالفعل في تعديل البنود الخاصة بسلطات الملك، واعتبرت الدستور منحة من الملك للشعب وأعطت الملك كل صلاحيات الحكم حتى في وجود برلمان منتخب، وعندما رأت الحكومة البريطانية استجابة الحكومة لرغبات الملك تدخلت هي الأخرى، وأصرت على حذف البنود الخاصة بوحدة مصر والسودان من الدستور واضطرت الحكومة للقبول حتى لا تعارض بريطانيا التعديلات الأخري!! إلا أن هذه الوزارة رغم كل هذه التعديلات لم تشهد إعلان الدستور إذ تم استقالة نسيم باشا في 5 فبراير1923.

الدستور السري..

وفى 15 مارس 1923 أمر الملك يحيى باشا إبراهيم بتشكيل الحكومة الجديدة، وصار إبراهيم باشا على نفس نهج الوزارة السابقة، وكانت التعديلات التي جرت على الدستور سرا لا يعرفها سوى الوزارة والملك وحاشيته، واضطر الملك إلى إصدار الدستور في 19 إبريل 1932، وبالطبع صدر الدستور كما أراده الملك فؤاد فيما يتعلق بسلطاته، وكما أراده الإنجليز خاليا من وحدة مصر والسودان، وثم إطلاق المدافع في كل مدن مصر احتفالا بإصدار الدستور الجديد للبلاد.

ورغم الصلاحيات التي حصل عليها الملك فؤاد بالتعديلات التي شوهت دستور 1923 إلا أنه ظل يتربص بالدستور، وكان الصراع بينه وبين وزارات الوفد على أشدها، وكان الملك لا يرضى عن عمل هذه الوزارات سواء أثناء رئاسة سعد زغلول للوزارة أو خلفه مصطفى النحاس باشا، وهو ما جعل الملك فؤاد يتربص بالدستور الذي أعطى الصلاحيات لهذه الوزارات، حتى حانت اللحظة المناسبة عام 1930، حينما عهد بالوزارة إلى إسماعيل باشا صدقى وهى الوزارة التي اشتهرت في التاريخ الحديث باسم الوزارة الحديدية.

أثناء توليه الوزارة قام صدقى باشا بإعداد دستور جديد للبلاد في سرية تامة وتم وضعه بالتعاون الكامل مع القصر، ولم يطلع عليه أحد سوى المندوب السامى البريطانى حيث أرسلت له نسخة ليطلع عليها قبل إصداره، ورغم كل ما يحمله الدستور السرى من ديكتاتورية رسخت الصلاحيات في يد الملك إلا أن المندوب السامى وحكومة بلاده لم يعترضوا على الدستور واعتبروه شأنًا داخليا لا علاقة لهم به، وهو ما يعنى في الحقيقة رضاهم التام عن الدستور خاصة وأنه سيكسر شوكة الوفد وما يسببه لهم من مشاكل!! وبالفعل صدر الأمر الملكى في 22 أكتوبر 1935 بإلغاء دستور 1932 وحل مجلس النواب والشيوخ، وفى نفس الأمر أصدر الملك الدستور الجديد الذي عرف بدستور 1930 !!

وقامت الهيئات السياسية والأحزاب بالاحتجاجات على إلغاء الدستور، وقررت كل الأحزاب مقاطعة الانتخابات الجديدة التي دعت لها الوزارة بموجب الدستور الجديد، وهو ما أدى لفوز ساحق لحزب الاتحاد الذي ترأسه صدقى باشا!!

وبعد الانتخابات خاض صدقى باشا حربًا ضروسًا ضد كل المعارضين للملك وللوزارة وزاد من حدة التنكيل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد في هذا الوقت وانخفاض أسعار القطن عالميا، وظل الوضع كذلك حتى استقالة صدقى باشا إثر سلسلة من أحكام قضائية طالت أعضاء من الوزارة وضباط البوليس الذين ثبتت ضدهم أعمال التعذيب خاصة في الحادثة الشهيرة التي عرفت بحادثة مقتل مأمور قسم البدارى على يد أحد الفلاحين بعد تعرضه لتعذيب وحشى من قبل المأمور!!

عودة دستور23..

وفى سبتمبر 1933 شكل عبد الفتاح يحيى باشا الوزارة خلفا لصدقى باشا ولم تستمر هذه أكثر من بضعة أشهر، خلفتها حكومة توفيق نسيم والتي تشكلت في 6 نوفمبر1934، كل ذلك والكفاح من أجل إلغاء دستور 1930 قائم على قدم وساق، وهو ما دفع وزارة نسيم باشا للاستجابة لمطالب الشعب وإلغاء دستور 1930 أو دستور صدقى باشا، وعودة العمل بدستور1923، ولكن فوجئ الشعب والقوى السياسية أن الوزارة أعادت دستور 1923 على الورق فقط ولم يعد العمل به فعليا، حيث لا تزال الأحكام العرفية سارية في البلاد ولا يزال البرلمان الذي انتخب في ظل الدستور البائد لم يحل، وهو ما أدى لاشتعال ثورة 19، خاصة بعد التصريح البريطانى الشهير الذي جاء على لسان السير صمويل هور وزير الخارجية البريطانية آنذاك، والذي جاء فيه أن الحكومة البريطانية نصحت بعدم عودة دستور 1923 لأنه لا يصلح للعمل به، وغضب الشعب غضبته الكبرى الثانية عقب الأولى في ثورة 1919، وخرجت المظاهرات تهتف «يسقط هور ابن الطور» وتعاملت الحكومة والقوات الإنجليزية بعنف شديد مع المظاهرات، وهكذا انتصرت إرادة الأمة وأجبرت الملك على إعادة دستورها مرة أخرى.
الجريدة الرسمية