رئيس التحرير
عصام كامل

المركز القومي للمشاعر (5)

أسبوعان مرا، وسالم عبدالخالق السريقوسي محبوسا في المركز القومي للمشاعر، دون أن يعرف السبب في احتجازه، أو الجرم الذي اقترفه، حين أتي لهذا المكان من أجل الحصول على بعض مشاعر الفرح، بغرض توزيعها على سبعة أشخاص، هو أحدهم، سيحضرون حفل زفاف ابنته سهر على ابن عمها ساهر.. خلال هذه المدة لم يتغير شيء، فقط انضم الحارس الذي كان يقف على باب الزنزانة إليه.. نعم لقد أصبح الحارس هو الآخر سجينا!

 

لم يدرك السريقوسي شيئا مما يحدث، وحتى لم يجل في خاطره أن يسأل الحارس عن سر الزج به هو الآخر في ذلك السجن، وربما كان ذلك لأن الرجل كان منشغلا بخوفه، للدرجة التي منعته من الحزن على نفسه.. وقد يظن أحدهم أن السريقوسي لم يحزن لأن الحزن من المشاعر المحظورة في مملكة خوفو، غير أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق، لأن الخوف أسوأ من الحزن.. الخوف يمنعك من الحياة، ويحولك إلى جسد بلا روح، مجرد آلة بشرية جامدة خالية من اي انفعال..

 

- هل معاك سجائر؟ هكذا سأل الحارس رفيقه في الزنزانة، ومع أن السريقوسي ليس مدخنا، إلا أنه فتش في جيوبه، وتلفت حوله، بحثا عن سيجارة..

- عما تبحث؟

- عن سيجارة أعطيها لك..

- هل كانت معك علبة سجائر حين رميت بك هنا؟

- أنا لا أدخن..

- نعم، إذا عما تبحث؟!

- عن السجائر، فكيف لي أن أخبرك بعدم وجود سجائر إن لم أتأكد أولا أنه لا توجد سجائر معي..

 

قلق السرياقوسي

 

تجاهل الحارس السجين كلام السريقوسي، وتمدد في الأرض، فاردا طوله بحثا عن بعض الراحة، فهذه هي المرة الأولى التي يتاح له أن يفعل ما يحلو له دون قيود، منذ سنوات، وتحديدا منذ أصبح حارسا في المركز القومي للمشاعر. 

وفي تلك الأثناء، كان السريقوسي يراقب الحارس، الذي راح يصفر ويهز ساقه التي وضعها على الساق الأخرى، وكأنه فلاح خالي البال يدندن أغنية قديمة على شاطئ الترعة.

 

- سيدي الحارس، هل لي أن اسألك سؤلا

- لأ..

- طيب..

لم يقاوم السريقوسي، ولم يصر على سؤاله، وانصاع بشكل آلي لرغبة الحارس، الذي رفض أن يجيب على سؤال رفيقه في الزنزانة، بل إنه لم يسمح له أصلا بأن يطرح سؤاله.. صار الحال دون تغيير ليوم أو يومين، فالسريقوسي غارق في خوفه، والحارس لا يبالي، وكل ما يفعله مجرد صفير وهو يؤرجح ساقه التي وضعها على الأخرى..

 

في اليوم الثالث، انفتح باب الغرفة، ودخل حارس ثان، وضع طبقين من العدس ورغيفي خبز، ثم خرج دون أن ينطق كلمة.

 اقترب السريقوسي من أحد الأطباق وأمسك رغيفا، فصاح فيه الحارس المحبوس معه، كي ينتظره، وقال له بلهجة آمرة أن يعيد الرغيف إلى مكانه..

 

- سيدي الحارس، لماذا تصرخ في؟

- لأنك تتصرف من تلقاء نفسك وكأنني لست موجودا معك، فقد هممت بتناول الطعام حتى دون أن تدعين أختار الطبق والرغيف الذين أرغب فيهما..

- لكن يا سيدي، الطبقين والرغيفين كل منهما متشابهين..

- أعرف، لكنك منحت نفسك حق الاختيار دون الرجوع لي..

- وهل علي أن أراجعك يا سيدي في مثل هكذا أمور؟

- دعك من هذا وأخبرني، ما السؤال الذي كنت تريد طرحه علي بالأمس..

 

تعجب السريقوسي من رفيقه، فبالأمس رفض أن يستمع للسؤال، واليوم هو يريد معرفة السؤال! كان السريقوسي محدد التفكير والمعرفة، بالقدر الذي لم يمكنه من فهم ما يدور في رأس هذا الحارس، الذي شعر لأول مرة في حياته بأنه حرا.. نعم هو سجين، في هذه الغرفة المظلمة الضيقة، ومع ذلك فإنه بات يملك قراره، فهو ينام أين يشاء، متى يشاء، كما أنه اصبح يحصل على طعامه دون جهد منه..

 

- كنت أريد أن اسألك عن سبب عدم شعورك بالخوف، ألسنا في مملكة خوفو حيث لا مكان لمشاعر فيها سوى للخوف؟!

- صحيح.. كلامك صحيح، لكنك لا تدرك أنك خائف بشدة، خائف حد الرعب، وهو كم من المشاعر يكفي فردين أو لنقل ثلاثة، ولهذا فقد استنفدت أنت القدر المتاح من الخوف، ما يسمح لي بألا أخاف.. تعرف، لو خرجت من هذه الغرفة، ستعود لي مخاوفي..

- لهذا أنت لا تهتم للأمر، بل إنني ألمح في عينيك استملاحا للأمر..

- كل كل، خذ هذا الطبق، وسآخذ أنا ذاك..

 

 

راح الحارس يعب من طبق العدس ويقضم الخبز، حتى امتلأ بطنه، فشبع ونام في مكانه، أما السريقوسي، فأكل نصف الرغيف وشرب نصف طبق العدس، خوفا من ألا يحصل في اليوم التالي على طعام.. وضع الرجل الطبق مغطى بنصف الرغيف إلى جواره، وحاول أن يحصل على قسط من اليوم، إذ أنه لم ينم منذ ثلاث ليال، لكن كل محاولاته باءت بالفشل، فالنوم يجافي عيون الخائفين، كما أن انفتاح باب الغرفة فجأة زاد الطين بلة، فالزائر شخص غير مرحب به.

الجريدة الرسمية