رئيس التحرير
عصام كامل

المركز القومي للمشاعر (3)

فكر كرم الحافي في أن يخبر مساعديه بأمر «نهر المشاعر»، بغية أن يصطحبهم إلى هناك، فيشربوا منه جميعا، ثم يعودوا ليجندوا مزيدا من الأتباع، حتى تقوى شوكتهم فينقلبوا على الحاكم، ويخلعوه ليكون هو الحاكم الجديد، غير أن شلالا من الخوف هطل عليه فجأة، وتساءل في نفسه عن مصيره إذا غدر به أحد هؤلاء المتجمعين في مكتبه ووشى به عند الحاكم قبل أن يكمل خطته، فتراجع عن الأمر وقال إنه سيخبرهم بشيء مهم لكن حين يجد الوقت المناسب!

 

كالعادة، تبادل جميع من في المكتب نظرات الخوف، ولم يجدوا ردا سوى هز الرؤوس بالموافقة على ما قاله الكومندان، ثم انصرفوا كل إلى عمله. أما الكومندان، فراح يتجول في الغرفة ذهابا وجيئة، عشرات المرات بل مئات، إلى أن توقف أمام زجاج النافذة الكبيرة التي تطل على الشارع، وأخذ يطالع ملامح وجهه المكسوة بالرعب، ولم ينفك يلوم على نفسه فكيف يجرؤ على التفكير في إخبار حفنة من الناس –حتى ولو كانوا من معاونيه– بأمر كهذا..  كيف يخبر بسر كبير لو قدر وعرفه أحدهم لطارات رقبته هو في الحال، فالحاكم لن يتساهل في هكذا أمر..

 

قال الحافي محادثا نفسه: لكن هؤلاء الناس من معاونيك، بينكم عشرة وعيش وملح.. لا مكان للوفاء إذا كان الثمن هو الحياة، ففي حضرة الخوف لا وجود لحب أو وفاء أو أية مشاعر أخرى.. أعتقد أنك تبالغ في الأمر.. لم لا تجرب؟!

أجرب؟! يا لك من أحمق، ليس هناك متسع للتجارب إذا كانت الحياة هي فأر التجارب.. كما أنك تتحدث عن حب ووفاء وكلها مشاعر ليست موجودة.. نعم معك حق..

 

حكايات الأجداد

 

في هذه اللحظة راح الحافي يسترجع حكايات الأجداد عن سلب المشاعر من الناس ومنحهم الحق في الخوف فقط، فدار أمام ناظريه شريط يرى فيه نفسه طفلا يجلس في حجر جدته التي كانت تحكي له حدوتة، لكنها حدوتة من الواقع ولا علاقة لها بالخيال، إذ كانت تقول:

«زمان، زمان، زمان.. في عهد الجد الأكبر للحاكم الحالي، كان أهل مملكتنا هذه يعيشون كباقي البشر في مختلف الممالك البعيدة، فكانوا يفرحون ويغضبون ويقلقون ويشعرون بمختلف المشاعر، التي يمكن لإنسان أن يشعر بها يوما، وفي أحد الأيام أصدر ذلك الحاكم القديم قرارا بزيادة ساعات العمل وتقليل الرواتب التي يحصلون عليها مع فرض مزيد من الضرائب، وذلك بدعوى إعادة بناء العالم الذي انهدم في العام 2050 بعدما بلغت التكنولوجيا أوجها، وبعدما بلغ التلوث ذروته..

 

في ذلك الوقت –الذي سبق انهيار العالم الحديث– كان الإنسان والروبوت يسيران جنبا إلى جنب، إذ وصل الإنسان وقتها إلى درجة من العلم مكنته من برمجة ذلك الإنسان الآلي ليقوم بمختلف الوظائف، وهي فترة شهدت ازدهارا كبيرة ورخاء، فلم يعد البشر في حاجة للعمل بأيديهم، غير أن الأمر لم يدم حين فقد  فقد معظم الناس وظائفهم ولم يعد لهم مصدر دخل، فقاموا بثورة كبيرة أجبرت الحكام على تحجيم دور الروبوتات وإفساح المجال أمام البشر لاستعادة وظائفهم..

 

مرت سنوات والأمر يسير بشكل جيد، غير أن شيئا لم يكن بالحسبان حدث.. لقد قام أحد العلماء بتزويد الروبوتات بقدرات بشرية كبيرة ومن بينها حزمة مشاعر جعلت تلك الآلات أقرب إلى بشر خارقين، يتمتعون بمهارات وقوى غير طبيعية، فضلا عن اكتسابهم قدرا كبيرا من الوعي جعلهم يثورون على الإنسان ليستعيدوا مكانتهم التي كانت..

 

وهكذا حدث ما لم يكن في الحسبان، فبات الإنسان عبدا لدى الآلة، حتى كاد الجنس البشري ينقرض، إلى أن نجح أحد العلماء الذين كانوا يعملون في مختبرات سرية تحت الأرض في اختراع فيروس يمكنه تدمير الروبوتات..

وخلال سنوات قليلة استعاد البشر الأرض من الروبوتات، التي تدمرت لكن بعد أن دمرت الأرض تماما، فانقرضت معظم الحيوانات واختفت معظم النباتات، وهكذا ورث البشر أرضا جدباء لا زرع فيها ولا حيوان..

 

نهر المشاعر

 

وبعد ذلك نشأت ممالك جديدة، منها مملكتنا هذه، ومن أجل إعادة إعمار الأرض –كما أخبرتك– قرر الجد الأكبر للحاكم الحالي أن يعمل الناس لنحو 20 ساعة يوميا وبأجر يقل عن نصف الأجور التي كانوا يتقاضونها، فضلا عن حزمة ضرائب تبتلع نصف مدخيالهم.. وحين ضاق الناس بالأمر وبلغ غضبهم ذروتهم ثاروا على الحاكم، والذي كاد يفقد نفوذه تماما، إلى أن جاء أحد العلماء بالحل، حين اكتشف فيروسا بشريا تمكن من تطويره، وهو فيروس قادر على تجريد الإنسان من كافة مشاعره عدا مشاعر الخوف..

 

وبالفعل أنتج ذلك العالم الفيروس، وحمله على بعض السحب حتى تمطره على رؤوس البشر في مختلف الأماكن، وبالطبع قبلها كان قد تمكن من تحضير لقاح مضاد حتي لا يفقد الحاكم والمقربين منه مشاعرهم فيصيرون مثل باقي البشر.. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان..

أمطرت السماء مائها المحمل بالفيروس الذي نزل على رؤوس الناس وكذا اختلط بماء الشرب وبذرات الهواء، فلم ينج منه أحدا.. حتى الحاكم والمقربين منه، ثم اتضح بعد ذلك أن اللقاح غير فعال، والطريف أن الحاكم لم يأمر بقطع رقبة ذلك العالم، إذ أنه تجرد من مشاعر الغضب والانتقام..

 

وقد تسأل يا بني عن مصير تلك المشاعر التي جُرد منها الإنسان، لهذا سأخبرك بالأسطورة التي يرددها الناس في السر، والتي تقول إن تلك المشاعر تبخرت في الهواء فصعدت إلى السماء وحملتها بعض السحب إلى مكان غير معلوم وسقطت هناك لتكون نهرا سريا يقال إن من يشرب منه يسترد مشاعره ويعود إنسانا طبيعيا..

ويقال أيضا إن الحاكم القديم ومن بعده أبناؤه وأحفاده، بحثوا –وما زالوا– عن ذلك النهر.. النهر الذي لا يعرف أحد إذا كان حقيقيا أم من نسيج الخيال».

 

 

انتهى الكومندان من استرجاع شريط ذكرياته مع جدته، وهو يردد: نعم يا جدتي النهر حقيقة.. وأنا شاهد على ذلك، وأقسم برأسك أنني يوما سأشرب منه وأسود هذا العالم.

الجريدة الرسمية