رئيس التحرير
عصام كامل

أرمينيا تحتفل باستقلال.. وإبادة!

عندما تصبح الجغرافيا وبالا على دول بعينها.. هكذا الحال بالنسبة لدولة أرمينيا، حيث يعد موقعها الإستراتيجى بين قارتى آسيا وأوروبا واحدا من أهم عوامل طرق المحتل لأبوابها. فى نهايات مايو من عام ١٩١٨ أعلن المجلس القومى الأرمينى استقلال أرمينيا، وقبل أن يحتفل الشعب بهذا الإنجاز كانت النزاعات الجغرافية قد بدأت تخطف تلك اللحظات الوطنية إلى أبعاد أخرى.


وبين حروب إقليمية على الأرض ومشكلات داخلية تأرجح الاستقلال الوليد ليصبح على موعد مع مارد جديد جاء ليحتل الأرض ويغير التاريخ والجغرافيا ويبقى لأكثر من سبعين عاما.. غزا الجيش السوفييتى الأحمر البلاد، وأصبحت أرمينيا جمهورية اشتراكية ضمن حدود الاتحاد السوفييتى.

 


ويظل الحلم يراود أجيالا وراء أجيال فى استقلال تام على أرض تاريخية كانت تمثل إحدى إمبراطوريات العالم القديم ويستمر الحلم القومى دافعا وراء محاولات تليها محاولات، حتى جاءت اللحظة الحاسمة فى مثل هذا اليوم من عام ١٩٩١م لتعلن أرمينيا استقلالها عن الاتحاد السوفييتى.
المتأمل فى موقع أرمينيا يدرك للوهلة الأولى لماذا ظلت مطمعا طوال تاريخها، ولماذا تقلصت مساحتها من إمبراطورية كبرى إلى دولة حبيسة، ومع ذلك يظل لموقعها الجغرافى سحر الجذب الاستعمارى.


والشعب الأرمنى واحد من أقدم شعوب الأرض أدى اختلاطه بشعوب كثيرة وفدت عليه أو هاجر هو إليها مضطرا تحت وطأة القتل والتدمير ليصبح مزيجا ثقافيا إنسانيا مدهشا، مع احتفاظه بتاريخ تليد منذ عصور ما قبل الميلاد.

إبادة جماعية


وأرمينيا أول دولة تدين بالمسيحية فى التاريخ الإنسانى، ولا يزال «جبل أرارات» الوارد ذكره فى التوراة باعتباره الجبل الذى استقبل سفينة سيدنا نوح يقع تحت احتلال تركيا، ولا يزال حتى تاريخه رمزا أرمينيا يشهد على تاريخ التمدد والانكماش الجغرافى حسبما قررته الجغرافيا السياسية تاريخيا.
ويعتز الأرمن بعيد استقلالهم الثانى، حيث تقام الاحتفالات فى جميع مناطق الجمهورية دون إغفال قضيتهم القومية الأولى، وهى الحصول على اعتراف العالم بمذابح الأتراك العثمانيين ضدهم، والتى راح ضحيتها قرابة المليون ونصف مليون مواطن أرمنى.


وقد أدت الاضطرابات التى أحاطت بتاريخ أرمينيا إلى نزوح الكثير من أبناء الشعب الأرمنى نزوحا جبريا وتهجيرا قصريا، حيث أصبحوا عناصر وطنية ضمن أوطان أخرى، من بينها مصر التى استقبلت الفارين من نار الحرب والقتل والتدمير التى بدأت مع منتصف عام ١٩١، وبلغت أوجها مع نهايات شهر أبريل من عام ١٩١٥م.


جمعت حكومة الوفاق والترقى العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى المئات من المثقفين والمفكرين والأعيان الأرمن وقامت بتهجيرهم من القسطنطينية إلى ولاية أنقرة، ليلقى معظمهم حتفه، وبدأت مرحلة «التتريك» بإبادة جماعية للأرمن.


وبدأ الأمر بقتل الشباب الذكور، ثم تلاه إجبار النساء والأطفال على ما سمى ساعتها بـ«مسيرات الموت»، وذلك بالمشى فى مسيرات حتى بادية الشام فى الفترة بين عامى ١٩١٥ و١٩١٦، حيث تعرضوا لعمليات نهب واغتصاب وقتل. قرابة المليون ومائتى ألف أجبروا على هذه المسيرات، ظل منهم على قيد الحياة قرابة المائتى ألف مع نهايات عام ١٩١٦م.

 

جريمة ضد الإنسانية

 

الناجون هربا من الموت انطلقوا إلى بلاد كثيرة، وشكلوا مجتمعات صغيرة انصهرت دون ذوبان فى مجتمعات أخرى استقبلتهم، وتوارثت الأجيال حكايات الإبادة آباء عن أجداد إلى اليوم. دول كثيرة حول العالم اعترفت بالإبادة التى تعرض لها الأرمن فى هذا التاريخ، وعدد ليس بالقليل من مفكرى تركيا يعترفون بالإبادة، ولا يزال الشعب الأرمنى فى الشتات، وداخل حدود الوطن يضغط ويقيم المؤتمرات للتوعية بحجم جريمة الدولة العثمانية ضد الإنسانية.


ورغم هواجس السياسة ومشكلات الاقتصاد الملحة تظل القضية الأم «الإبادة» هى الشغل الشاغل لطوائف الشعب الأرمنى سواء داخل أرضه أو فى الشتات.
 

وأتذكر أنى حضرت الاحتفالية الكبرى بمئوية الجريمة النكراء وقد حضرها لفيف كبير من قادة العالم على رأسهم الرئيس الروسى بوتين، وقد شهدت الاحتفالية مسيرة شعبية مهيبة من جميع الميادين إلى نصب تذكارى لا يزال مقصدا مهما لأوراق الشجر والورود التى تلقيها الأجيال جديدة على أرواح الضحايا.


ونحن فى ميدان الجمهورية أكبر ميادين العاصمة «يريفان» نشهد احتفالية الشعب الأرمنى بمرور ثلاثين عاما على الاستقلال الثانى، وعلى مقربة منه وعلى قمة جبل يقع نصب ضحايا الإبادة.

الجريدة الرسمية