رئيس التحرير
عصام كامل

"أم الأبطال" الأولى في كل شيء

ليس صدفة أن يتصدر اسم السيدة جيهان السادات "ترند الميديا" في جميع الدول العربية وبعض دول العالم، الكل نعاها بصدق ومحبة وتقدير ويستذكر مآثرها، وحتى رؤساء الدول قدموا العزاء إلى الرئيس السيسي، بعدما نفذ وصيتها التي نقلها إليه نجلها جمال قبل وفاتها بأيام، بأن تدفن في النصب التذكاري إلى جوار زوجها، وزاد عليها بتكريم بالغ لم تنله مصرية من قبل.


تقدير الرئيس السيسي، غير المسبوق للراحلة الكبيرة لم يكن من فراغ أو تأثرا بالوفاة، بل عرفانا بما قدمته لمصر طوال حياتها حين كانت "السيدة الأولى" وبعد رحيل زوجها "بطل الحرب والسلام" الرئيس السادات، إلى أن اشتد عليها المرض.

تجلى احترام ومحبة الرئيس السيسي، للسيدة جيهان السادات منذ توليه الحكم، إذ حرص على دعوتها دائما في الاحتفالات الرسمية الكبرى، وكان يلتقيها وأولادها سنويا في احتفال أكتوبر عند زيارته النصب التذكاري وقبر الرئيس السادات، وربما كان بذلك يعوضها عن ظلم تعرضت له وتغييب متعمد عشرات السنين، كما كان التكريم دلالة على تفرد واستحقاق جيهان السادات، نظرا لعطائها الوطني في حياة زوجها وبعد وفاته..

وهو ما أكده بيان الرئاسة، بأن الرئيس السيسي منح جيهان السادات "وسام الكمال بعدما قدمت نموذجا للمرأة المصرية في مساندة زوجها في أصعب الظروف وأدقها، حتى قاد البلاد لتحقيق النصر التاريخي في حرب أكتوبر الذي مثل علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث وأعاد لها العزة والكرامة. كما قرر إطلاق اسمها على محور الفردوس، نظرا لما قدمته لمصر من عطاء، وتضحيات برفقة زوجها الرئيس الأسبق حتى لقبت بأم الأبطال".

مفاجآت الجنازة العسكرية
المفاجأة الكبرى في تكريم الراحلة الكبيرة تمثلت في توديعها بجنازة عسكرية مهيبة تقدمها الرئيس السيسي ومعه كبار رجالات الدولة في سابقة تاريخية تقديرا لشخصية فريدة من نوعها ولزوجها الرئيس السادات، وأثارت الجنازة المهيبة المنتمين لجماعة الإخوان الإرهابية، فاستنكروا توديع سيدة فاضلة بجنازة عسكرية للمرة الأولى في مصر، واستغربوا كم المحبة والتقدير الشعبي لها وأسرتها، وكأنهم يريدون أن يكون الشعب مثلهم خائنا غادرا مجرما..

فهم الذين أطلق الرئيس السادات سراحهم وأخرجهم من السجون، فكان جزاؤه الاغتيال على أيديهم يوم انتصاره أمام زوجته وجنوده والعالم كله، وحتى في عام توليهم حكم مصر احتفلوا بنصر أكتوبر بحضور قتلة السادات "بطل الحرب والسلام" وغابت زوجته وأولاده ومستحقو التكريم.

صحيح أن الجنازة العسكرية سابقة تاريخية سجلت باسم جيهان السادات، لكنها في الوقت ذاته تثبت تقدير عميق لنساء مصر ودورهن في المجتمع ومساواتهن في المكانة مع الرجل، وهي لفتة كان لها أثر بالغ في العالم لتكريم مصرية متفردة كانت الأولى في كل شيء منذ بداية تشكيل وعيها حتى توديعها بجنازة عسكرية مهيبة.

السيدة الأولى
جيهان السادات، القوية الصلبة ساندت زوجها منذ عرفته في مراهقتها وأصرت على الارتباط به وتحملت معه شظف العيش وسنوات الكفاح والحرب وشهدت بنفسها لحظة اغتياله وظلت متماسكة، واجهت الافتراءات والشائعات وكافحت لإكمال رسالتها العلمية والمهنية والدفاع عن زوجها وأسرتها لتصبح قدوة ومثلا أعلى للمرأة المصرية وتحظى باحترام العالم أجمع.

عايشت السيدة جيهان السادات، رحمها الله، بمرافقة زوجها الرئيس الراحل جميع الأحداث المهمة التي شهدتها مصر منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، واختارت لنفسها طريقا مختلفا، فرغم زواجها في سن المراهقة أصرت على إتمام دراستها الثانوية والتحقت بالجامعة وهي قرينة الرئيس ثم نالت الماجستير، وبعد وفاته نالت الدكتوراه في الأدب العربي، لتضرب المثل على عزيمة وطموح ومثابرة المصرية.

بادرت جيهان السادات إلى النشاط العام بداية الستينيات، إلا أن دورها بدأ يتبلور بعد تعيين السادات نائباً لرئيس الجمهورية، ثم رئيساً بعد وفاة عبدالناصر، فكانت أول من حملت لقب "السيدة الأولى"، واهتمت بالمرأة الريفية كي تتمكن من الاستقلال المادي من خلال مشروع جمعية "تلا" التعاونية لتعليم القرويات الخياطة والتريكو، ثم تنظيم معارض لتسويق الإنتاج، وترأست عشرات المنظمات والجمعيات الخيرية منها الهلال الأحمر، جمعية بنك الدم، تنظيم الأسرة، الجمعية المصرية لمرضي السرطان، جمعية الخدمات الجامعية، أنشأت مركزاً للعناية بالمعاقين، "مدينة الوفاء والأمل" لتأهيل المحاربين القدماء، قرى أطفال SOS في القاهرة، الإسكندرية وطنطا، ومشروع كفالة اليتيم، جمعية الحفاظ على الآثار المصرية، الجمعية العلمية للمرأة المصرية، وجمعية رعاية طلاب الجامعات والمعاهد العليا.

إنسانة نادرة
حققت السيدة جيهان السادات، الحضور الطاغي أثناء وبعد حرب أكتوبر، حيث قادت المتطوعات للخدمة في المستشفيات، زارت جرحى ومصابي الحرب، والمرابطين على الجبهة وكانت تلبي طلباتهم وتعاملهم بحنو وأمومة فأطلقوا عليها "أم الأبطال". ثم قادت حملة تنظيم الأسرة، وسعت من أجل حقوق المرأة ونجحت في تمرير قانون الأحوال الشخصية لصالح المرأة. كل هذا كانت فيه الأولى، وأكملت ريادتها بأن رشحت نفسها "مستقلة" للحصول على مقعد بالمجلس الشعبي في المنوفية لإبراز الدور السياسي للمرأة، وإفساح الفرصة للريفيات للمساهمة في السياسة، وأعيد انتخابها لدورة ثانية، وخدمت ثلاث سنوات كأول سيدة رئيس لمجلس شعبي في مصر.

لم تستسلم جيهان السادات، لحملات التشويه والأكاذيب بعد اغتيال زوجها، وقادت أسرتها إلى بر الأمان، ثم نالت الدكتوراه واتجهت للتدريس في جامعة القاهرة، وإلقاء المحاضرات في الجامعات العالمية، ووزعت إقامتها بين مصر والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه أصدرت مذكراتها بعنوان "سيدة من مصر" ثم "أملي في السلام"، وشاركت في مؤتمرات عالمية عن السلام والتعايش وحاضرت عن تاريخ زوجها والحضارة المصرية، في وقت كانت مغيبة إعلاميا في مصر، لكنها عادت إلى الأضواء وتبوأت مكانتها المستحقة في السنوات الأخيرة، والحقيقة كانت خير داعم للدولة ومؤسساتها والرئيس السيسي، الذي وجدت أنه "بطل أنقذ مصر من الإخوان، ولديه كثير من صفات الرئيس السادات"، وحين أعلن الرئيس السيسي عن تأسيس صندوق "تحيا مصر" شاركت بنفسها في جمع التبرعات وتمكنت في يوم واحد من جمع 23 مليون جنيه.

من يعرف السيدة جيهان السادات، عن قرب يدرك كم هي إنسانة نادرة، صبورة، متواضعة، بسيطة، ذكية، مثقفة، حكيمة، عاشقة لبلدها وزوجها الراحل، لا يمكن أن تخطئ في حق أحد، ولا ترد الإساءة بمثلها بل بالعكس تلتمس العذر للجميع حتى المسيئين لها وأسرتها، ولهذا استحقت تقديرا غير مسبوق في تاريخ مصر عند وفاتها.

رحلت جيهان السادات، رحمها الله، جسدا لكن عطائها وتاريخها سيظل باقيا للأجيال، ومثلما قالت في أحد كتبها "الأمجاد لا تموت وإن غيب الثرى أجساد أصحابها، فلا فناء للمجد ولا خلود للأحقاد، تبقى مصر ومن عطائها يبقى العطاء في شموخ الهرم وصمود الزمن".
الجريدة الرسمية