رئيس التحرير
عصام كامل

ثلاث قصص من جبال الملح

في مملكة جبال الملح البعيدة، تتشابك مصائر البشر بالحيوانات والجماد، فلا يمكنك تمييز خيوط حكاية كل منهم رغم تباينها، لتظل العقدة قائمة.. وهذه ثلاثة قصص لثلاث حيوات لا أحد يعلم متى بدأت وكيف ستنتهي.


القطة التي ابتلعت نفسها
قطتي نصف وجهها مشوه، احترق قبل عام، وكلما حاولتُ ترميمه رفضت، رغم أنها تعلم جيدا أنني جراح ماهر. أخيرا، سألتها عن سبب رفضها، فأخبرتني صراحة: «أنا العقاب الذي تستحقه».. قالتها وثبتت ناظريها إلى عيني للحظات.

تلك اللحظات التي قد تبدو لكم قصيرة، كانت لي عمرا، وفيها تجولت في واحدة من حيواتي السابقة، إذ كنت ورقة شجرة رفضت الانصياع لأومر العاصفة ذات خريف، فسقط كل ما كانت تحمل الشجرة وبقيت أنا. غضبت الريح ولعنتني فذبلت، بينما نبتت أوراق جديدة من حولي.

كنت قد اعتقدت أن الذبول هو العقاب، غير أنني في حياتي الحالية تيقنت من أن العقاب ليس بالضرورة أن يتساوى والخطيئة، خاصة إذا كانت خطيئتك هي التمرد، ذلك الفيروس الذي يخيف ذوي السلطة - فهم يخشون انتشاره في أجسادهم المهترئة فيكشف خواءهم.

سألت قطتي عن سر رضوخها وقبولها أن تكون عقابا لغيرها، فتلاعبت بذيلها وأخبرتني أنها مثلي ملعونة لأنها يوما لم تشرب الحليب كباقي القطط. تركت قطتي نصف وجهها المشوه على وجهي، وابتلعت نفسها، وهي تموء بعنوان ذلك الرجل الذي أصبحت أنا الآن العقاب الذي يستحقه.

امرأة تعانق الغرباء
الرغبة في البوح شهوة لا تقل اشتعالا لدى البعض عن الرغبة في معرفة أسرار الآخرين، أعرف امرأة كانت مع شروق الشمس تعانق الغرباء في الشوارع وتمنح كل واحد منهم سرا من أسرارها، ثم تتعقبهم إلى بيوتهم، لتقتلهم عند الغروب.

وليلا، كانت تعود إلى بيتها، حيث الفناء الخلفي يتوسطه بئر يفيض بالذكريات، فتجثم على فوهته وكأنها تحتضن حبيبها، وتستنشق منه حتى يمتلئ صدرها بالحكايات، التي تخلطها بالأحلام أثناء نومها، لتستيقظ مع الشمس، وتعاود روتينها اليومي بتفريغ الأسرار إلى قلوب الغرباء الذين تقتلهم، لتحرر أرواحهم من عبء أجسادهم المحملة بالأسرار.

اليوم شاهدت هذه المرأة، تسير في الشوارع خلف شعرها الذي يسبقها دوما إلى تجمعات هؤلاء الذين يحلمون في يقظتهم، لتمنحهم الأحلام التي رأتها الليلة الفائتة، كي تمنح الحلم حياة أخرى.

وأحلام هذه المرأة لا تشبه أحلامنا، لكنها من لحم ودم، تتخذ أشكالا عدة، يمكن أن تكون مثلا قطة أو نمرة وأحيانا سمكة.. أحلام سرية تسير بيننا فلا نلحظها لأننا اعتدنا وجودها حولنا، فصارت في أعيننا.. لا شيء.

عندما عاد الأسد
في الغابة القريبة أنجب الأسد خمسة أشبال. كان يطعمهم كل يوم أرنبا، إلى أن همس الثعلب في أذنه: مولاي، وهل تليق الأرانب بالأسود الصغار؟». قال الأسد: «ليس أمامي سوى الأرانب.. فماذا أفعل؟».

تظاهر الثعلب بالتفكير، ثم قال: «في الغابة البعيدة الكثير من الغزلان.. اذهب واحضر منها ما شئت فأنت الملك».

بدا الأسد مقتنعا، بعد قليل من التفكير، لكنه ارتاب في مقصد الثعلب، فربما يكون قد قال ذلك كي يصبح هو ملك الغابة في غيابه، فصرح بما في نفسه لمحدثه، الذي قال: «لا ألومك على مخاوفك يا مولاي، لهذا أقترح أن تسمي الحمار نائبا لك، ليحكم مكانك ويربي أشبالك حتى تعود، وأنا أول المبايعين».

وقبل أن يقول الأسد «ولكن»، ذكره الثعلب بأن الحمار محمي بغبائه، فهو أتفه من أن يطمع في الحكم. سافر الأسد إلى الغابة البعيدة، وبعد عناء شهور وصل، فلما هم بصيد غزالة، استوقفه أسد تلك الغابة، وألقى به في السجن، ثم سرعان ما عفى عنه، وقال له: «إذا أردت غزلاني فاعمل لدي لعام أو بعض عام، وبعدها، أمنحك عشر غزلات دون عناء لتعود بها إلى غابتك وأشبالك»، فكان ما كان.

وبعد نحو عامين، عاد الأسد إلى غابته، فوجد أشباله بصحبة الحمار يرعون في حقل البرسيم، فاستشاط غضبا واقترب منهم كي يعيدهم إلى العرين ليطعمهم اللحم، إلا أنهم رفسوه وظلوا يرفسونه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة. فرت الغزلان، ومات الأسد، وأعلن الثعلب ملكا على الغابة.
الجريدة الرسمية