رئيس التحرير
عصام كامل

"منذ ذلك القفا"


كنت أعمل في شارع السوسى بدمنهور في منتصف الثمانينات في أثناء فترة الإجازة الصيفية، وكان هناك رجل صاحب مخبز يهابه الناس جميعا لبذاءته وسطوته على كل خلق الله وخاصة الضعفاء منهم، كنت أكره هذا الرجل وأمقت مجرد مروره أمامى، فما بالك وهو صاحب العمل وأنا أجير عنده..


وكنت أتمنى يوما حدوث كارثة له لأتشفى فيه، مع أنه لم يسبنى يوما أو يهين كرامتى وذلك لأننى كنت ملتزما جدا بعملي ولا أعطى فرصة له أو لغيره لإهانتي، ولكن في يوم ما كنت قد تهيأت لركله بقدمي أو ضربه بأى شكل خاصة وهو أقصر منى بمراحل..

وكنت أتمزق بين فقداني لعملي عنده وضربه.. لماذا كنت أتمنى ضربه وأسعى وأرتب لذلك، بل وأحسب بدقة خسائري بعد تلك الضربة الانتقامية.. لا أدري ولكن ربما الكبت والغيظ المكبوح تجاه هذا الأفاق المستبد المتسلط بزىء اللسان، والذي لم يسلم من وقاحته وافتراه أغلب من يعملون في هذا الشارع وبالأخص العمال المساكين في مخبزه الضخم، ثم جاءت ساعة الحسم وقلت لنفسى اليوم..

نعم، اليوم سأقوم بضربه ثم أجرى وأترك اليومية ورزقى على الله، لكن أكون قد شفيت غليلي، وأيضا سيكتب اسمى بحروف من نور في شارع السوسى الأشهر بدمنهور في سوق البندر حينها، وربما قام أحدهم بدعوتى للعمل عنده في مخبزه أو مطعمه من الكارهين لهذا الرجل وهم كثر!

تهيأت للحدث الأعظم في حياتي حينها وللبطولة المتوقعة وخيمة العواقب، فقطعا كان هناك صبية آخرون وعمال كبار سيلاحقوننى ويشبعوننى ضربا إرضاءً لمعلمهم صاحب لقمة عيشهم المر.. لله الأمر من قبل ومن بعد، توكلنا على الله، الأفضل أن أنتظر حتى ينتهي عملي في الخامسة تقريبا وأحصل على الأجر (اليومية) ثم أنفذ العملية السرية والتي لم أعلم بها أحدا إلى اليوم وأنا أسرد تفاصيلها، وكأنى وقتها أحتفظ بسر حربى أو عملية مثل عملية البطل جمعة الشوان ضد الصهاينة!

انتهى اليوم، وقمت بتبديل ملابسي كالمعتاد وخرجت لأحاسب رئيس العمال ثم أتوجه للهدف وأضربه ضربا سريعا متلاحقا ويا فكيك ويا رب يا ستار احمينى من الجبار، ولكن كانت المفاجأة السارة والمروعة غير المتوقعة، فلقد قام أحدهم بفعلها بالنيابة عنى ولسع المعلم الجبار قلم كبير على قفاه أمام مخبزه وفى وسط الشارع أمام جمهوره وفى ملعبه، وعلى عينك يا فاجر، وعلى قفاك وعلى وجهك، خذ يا كلب!..

نعم على قفاه ثم تبعه بآخر على وجهة ثم ركله بقدمه والضحية الذي صار قطا يصرخ وتلوى ألما دون أن يتحرك أحد لنجدته، حتى صبيانه في المخبز أصابهم الذهول الممزوج بفرحة غامرة، وكادوا يتقافزون فرحا بسقوط جلادهم على يد شاب جريء!

كيف حدث هذا، الجميع كان مندهشا ولكن الاندهاش تلاشى عندما علمنا أن هذا البطل الذي قام بتلك المهمة المقدسة كان ينتقم لأبيه الذي تطاول عليه هذا البلطجى منذ أيام قليلة خلت، انتقام أشفى غليل الكثيرين وأزاح عنى هما كبيرا ومنحنى فرصة للعمل بقية الإجازة عند المعلم الذي أصبح كسير النفس وصار من عباد الله الصامتين منذ ذلك القفا!
fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية