رئيس التحرير
عصام كامل

يا بركة ليلة العيد


في مثل هذا اليوم كانت تتوافد على جرن "أبو مسافر" في قرية "شنبارة الميمونة" قوافل "المراجيح" الكبيرة المنافسة لبطة عم عطية، و"مرجيحة" الدهشان والخالة "ستهم". وقبل أن تنتهي عشية هذه الليلة كان يتوسط الجرن بائعو البهجة من الطبول وعرائس الدمى، والبلالين الكبيرة، والبمب والحبش، والألعاب الشعبية بدائية الصنع، قبل أن تكتسح الألعاب الصينية بساطة ألعابنا المصرية.


مهرجان وانتصب على حس سيدى "أحمد أبو مسافر" والي الجرن، واحد من كبار السادات الصوفية البازاتية الحسينية الأشراف الذي استقر به الطواف في قريتنا وأقيم له مسجد في الجرن ومقام في الحارة ومولد يقام له كلما أتى العيد الصغير والكبير. وعُرفت احتفالية العيد باسمه، وصارت عادة اندمجت في تقاليد عائلات القرية الكبار بالسماح لكل الغرباء المتجولين والبهلونات والباعة والدراويش والزوار من القرى الأخرى أن يحلوا على القرية، ويربطوا بغالهم وأمتعتهم وبضاعتهم وسط الأجران وأمام مصاطب الديار.

كل مفردات المكان في قريتي كانت تشع بهجة وطيبة في ملامح الناس الآتية على فيض الكريم من قرى الدلتا، تبيع وتشتري بعضا من السعادة على حس مولد"أبو مسافر"، الكل عشمان في كرم الله ورزقه.

وقبيل الفجر كانت تفوح التجهيزات الاحتفالية بالعيد المنبعثة من الخيم المتخذة من مصاطب ديار الجرن ملاذا وقاعدة انطلاق، فمصطبة "سيدي طلعت" كانت مخصصة لخيمة الطبول والدفوف الصغيرة، ومصطبة "سيدي ممدوح" كانت حكرا لطاسة زيت "الخالة غِنى" وطعميتها التي تتحول في هذا اليوم إلى بقلاوة بالسكر.

أما مصطبة "أبو زلط" فكانت تصطف عليها زجاجات العصير الملون، وتتفرد مصطبة دكان "عم مجاهد" ببقالته العتيقة وحلوياته المعتقة "الزنخة" من أقماع السكر وأقراص الحلاوة الطحينية والزبيب الأسود وكوز العسل بفضلات الذباب، وحلوى الفوندام بألوانه الباهتة المتحجرة. كانت البهجة تتكلم!

وعلى نطاق متصل، تقام وسط جرن النادي سيرك"الحاوي"، وبناته البهلوانات الجميلات، وقرده العازب، وأراجوزه السفيه الذي كان يلسن على العمدة. وترابيزات القمار المضحكة وتوجسنا الساذج في الالتفاف حولها وكأننا في قلب المافيا وليس في المولد.

أما نحن عيال العائلة الكبيرة من أولاد "عبد السلام الجندي" وأحفاد سيدى "طلعت" وسيدى "ممدوح" وسيدى "السيد"، بالإضافة إلى عيال الجرن من دار سيدى "مجاهد"، وعم "عزب"، وعم "سعد"، وعم "أبو حمدانة"، وسيدى "عبد المحسن أبو عطية"، إلى باقي سلسلة عيال حارة "أبو مسافر"، كذلك عيال الأجران والحواري المجاورة أصحابنا من حارة الرميلة ومن ناحية المجمع والجميزة والبحر. فكنا جميعا مثالا رائعا لعشوائيات الموضة المبهجة.

على كل حال كانت ملابس العيد نموذجا للثراء الباذخ خاصة في الاكسسورات ومكملات الوجاهة، مثل النظارة الشمسية البلاستيكية مشمشية اللون على بجامة مخططة بالعرض، على جزمة برقبة محشورة فيه رجل البنطلون، أو كاب الشرطة العظيم فوق جلباب كستور على شبشب أخضر غامق. المهم كانت الأناقة واضحة!

وفي متن البهجة كنا نتسابق على منصات الباعة من بائعي السمك المقلي فنكتشف أنه قشر بطيخ، ومع ذلك نأكله ونشترى مرة أخرى. وكانت تكمن متعنا في تجرع زجاجات العصائر الملونة بكل ما هو غريب ومريب، نشير للبائع على اللون الأصفر، فكان يعطينا الزجاجة الزرقاء مبحلقا: اطفح وأنت ساكت، نشرب ثم نبخ ما تبقى على بعضنا بعضا كنوع من أنواع الرخامة والمفاجأة كانت "البخة" تأتي بلون ثالث! كانت هذه الزجاجات وما حوت السحر الملون المسكر اللذيذ بالنسبة لنا، وكنا نترنح بعدها، وكأننا شربنا المنكر!

وفي سياق الدهشة، كنت أتقمص دور المخرج السينيمائي وأعلق المنظار الملون البلاستيكي في عنقي وأقف في"التراسينة الخشبية للطابق العلوي من الدار" المطل على براح المولد في الجرن، وأمعن النظر فإذا ببراح الجرن يبدو كرنفالا مزركشا يسع الجميع وكأنهم أطياف قوس قزح في عمق بؤرتي الريفية الخضراء المحيطة بأطراف المشهد. طبعا كنت "عيل" وقتها ولم يعنني من هذه الصورة إلا متابعة العيال الرخمة والغرباء لأحدد مكانهم وألسعهم بالنبلة!

والآن ماذا بقى من العيال، شابوا، سافروا، تغربوا فوق الأرض ومنهم من سكن تحتها. تبدل الحال والمقام والوصف، ضاق براح القرية بسبب غباء إداري في تشويه الجرن وساحة العيد بإقامة بيارة عملاقة حجبت الشمس وقزمت وقسمت ساحة الجرن الواسعة لتكون شاهدا على مدى القبح الهندسي والتخيطط المحلي. العجيب أن هذه البيارة لم تستفد بها القرية في شيء، ولم يتم تشغيلها، بل وقفت كمبنى خرب يغتال فرحة العيال في القرية بالعيد وساحة الجرن العريق. لو بيدى لكنت حاكمت من تسبب في هذه المخربة!

أعيدوا للقرية رونقها الحضاري وروحها الموغلة في مصريتها القديمة، أعيدوا لـ"شنبارة" بهجة الاحتفال بخصوصيتها الكرنفالية في خريطة أجرانها التي تعد بمثابة تراثا ثقافيا ملموسا معبرا عن شعيرة مواسم الحصاد وأعياده. أعيدوا لأحفادنا العيد!
فلا تستهينوا بمكر ( ن والقلم وما يسطرون )..
الجريدة الرسمية