رئيس التحرير
عصام كامل

«الشافعي» و«نفيسة» العلوم


عزيزي القارئ، توقفنا في المقال السابق عند ثناء "هارون الرشيد" على الإمام "الشافعي" بعدما سأله عن الكتب والرسالات السماوية، وعن علوم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وعن اللغة العربية، وإفاضات الإمام فيها، وقد شاهدنا مدى غزارة علم "الشافعي" ونبوغه في كل تلك العلوم وإبحاره فيها. وفي هذا اللقاء نستكمل هذا الحوار الرائع.


بعد هذا الإعجاب والثناء من "هارون الرشيد" على الإمام "الشافعي" قال له: يا "شافعي" كيف معرفتك بالشعر.. فقال "الشافعي": إني لأعرف طويله وكامله وسريعه ومجتثه ومسرحه وخفيفه وهجهزه ورجزه وحكمه وغزله.. وما قيل فيه على الأمثال تبيانا للأخبار، وما قصد به العشاق رجاء للتلاق، وما رثي به الأوائل ليتأدب به الأواخر، وما امتدح به المكثرون بابتلاء أمرائهم، وعامتها كذب وزوار ونفاق..

وما نطق به الشاعر ليعرف تنبيها وحال لشيخه فوجل شاعره. وماخرج على طرب لصاحبه لا إرب له.. وما تكلم به الشاعر فصار حكمة لمستمعيه..

فقال الرشيد: أكفف يا "شافعي" فقد أنفقت في الشعر وما ظننت أن أحدا يعرف هنا ويزيد حرفا ولقد زدت وأفصلت. فكيف معرفتك بالعرب.. قال الشافعي: أما أنا من أضبط الناس لآبائها وجوامع أحسابها، وضوابط أنسابها، ومعرفة وقائعها، وحمل مغازيها في أزمنتها، وعدد ملوكها، وكيفية ملكها، وما هية مراتبها، وتكميل منازلها، وأندية عراضها ومنازلها.

منهم قوم تبع وحمر وجفنة والأسطح وعين وعويص والأسكندر وإسفاد وإسططاويس وسوط وبقراط وإرسططالي، ومن أمثالهم من الروم إلى كسرى وقيصر ونوبة وأحمر وعمرو بن هند وسيف بن ذي يزن والنغمات بن المنذر وقطر بن أسعد وصعد بن عسفان وهو جد سطيح الغساني لأبيه.

من أمثالهم من ملوك قضاعة وهمدان والحيان وربيعة ومضر.. فقال الرشيد: يا شافعي لولا أنك من قريش لقلت إنك ممن لين له الحديد. وإني أراك عالم قريش الذي يملأ الله تعالى به طباق الأرض علما كما نبأ ابن عمي رسول الله صلى الله عليه وسلم..

هذا ومع كل علم الإمام "الشافعي" إلا أنه كان يتردد على مجلس السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها بعدما أقام بمصر طلبا للمزيد والتزود من علمها، وكان يرافقه الإمام "الليث بن سعد" عالم مصر وشيخها، وكانا يجلسان بين يديها الكريمة وفي حضرتها مجلس طالبي العلم بين يدي الأستاذ والمعلم.

وقد انتفعا بعلومها وتزودا منها. هذا وعندما نتحدث عن علم السيدة "نفيسة" رضي الله تعالى عنها نشير إلى أنه العلم الرباني. علم القلوب والصدور المفاض على قلبها الطاهر من خزائن العلوم اللدنية من الحق سبحانه وتعالى. ذلك العلم الجامع للعلوم والأنوار والمعارف والأسرار والحقائق والرقائق والمعاني والحكم، والذي أشار إليه سبحانه في قصة الولي الصالح سيدنا الخضر عليه السلام في حكايته مع كليم الله ورسوله ونبيه سيدنا موسى عليه السلام بقوله تعالى في وصف الخضر: "عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما"..

وهذا العلم قاصر على أهل الاجتباء والاصطفاء الإلهي من أهل ولاية الله تعالى ومحبته. هذا ولقد كان للإمام "الشافعي" مع سيدتنا مواقف وحكايات لطيفة، منها:

أقبل "الشافعي" بصحبة الإمام "الليث" على مجلس السيدة "نفيسة" يوما وفي الطريق قال "الشافعي": يا "ليثي" عندي مسائل وأجوبة عليها سوف أطرحها على سيدتنا السيدة "نفيسة". إما أن تقر الإجابات عليها وإما أن تصححها.. فلما وصلا إليها واستأذنا في الدخول عليها، وأذنت لهما، نظرت إلى "الشافعي" وبادرته بالقول قبل أن يسأل، قائلة: يا "شافعي" لا تسألني عما تعلم بل اسألني عما لا تعلم، حتى أعلمك بفضل الله تعالى علم ما لم تعلم.. وهنا علم "الشافعي" بإقرار السيدة "نفيسة" بالإجابات التي عنده، وأدرك فراسة ونورانية السيدة "نفيسة"..

فقال: والله أراك الله ما في صدري وأطلعك على ما في نفسي، والله إنك لنفيسة العلوم، وهنيئا لك بأنوار علوم جدك صلى الله عليه وسلم، وعليكم أهل بيت النبوة ومعدن العلم والعرفان.. هذا وكان الإمام "الشافعي" رحمه الله يعتقد في ولاية وبركة السيدة "نفيسة" فكان إذا مرض أرسل إليها أن تدعو له بالشفاء، فكانت بمجرد أن تدعو له يشفيه الله عز وجل إلا في مرض وفاته.

فعندما أرسل إليها قالت: أحسن الله لقاءه. فلما علم بقولها بك وقال لمن حوله: أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا ولسوء عملي ملاقيا ولكأس المنية شاربا وعلى الله تعالى واردا ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها.. ثم أنشأ فقال: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي.. جعلت رجائي نحو عفوك سلما.. تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما.. فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما.. ولولاك لم يصمد لإبليس عابد.. فكيف وقد أغوى صفيك آدما"..
الجريدة الرسمية