رئيس التحرير
عصام كامل

عزبة «الشهيد»


ربما تزامن مروري على هذا المكان مع جلوسه أسفل تلك الصورة المحمولة على أعمدة حديدية، ففي الريف يحلو للرجال الجلوس على نواصي الجسور وقت الغروب، اقتربت منه بسيارتي وسألته عن الطريق المؤدي للمكان الذي أبتغيه، لكنه لم يرفع رأسه المتكئة على ركبتيه، عاودت السؤال فرفع رأسه ببطء محدقا في وجهي. 


ألقيت عليه السلام للمرة الثانية وكررت السؤال، فهم برد السلام ثم اعتدلت جلسته وسألني: ماذا تريد؟.. فذكرت اسم القرية، ثم هم الرجل بالوقوف رافعا هامته، وبحماسة شديدة أشار إلى الصورة وقال: هذه عزبة الشهيد "محمد" ابني هل تعرفه؟

فقلت.. هو في الجنة إن شاء الله، فأعاد سؤاله، فاعتذرت عن عدم معرفتي بالشهيد لأنني لا أعيش في هذه المنطقة، فاندهش الرجل متسائلا: إزاي متعرفش الشهيد اللي حارب الإرهاب ومات فداء لمصر، كنت تعال شوف جنازته، كانت زي الفرح، الصورة اللي متعلقة دي كانت آخر صورة له، بعتها لخطيبته، كنا محددين معاد الفرح، وكنت متفق معاه إني هعمله أجمل زفة، بس الحمد لله، والله جنازته كانت بألف زفة، كانت الستات بتزغرد، والرجالة بيهتفوا باسمه، شايف صورته؟

كان دايما مبتسم كده، هو إنت كنت بتسألني عن إيه؟ آه بص.. أيمن ثم أيسر، وعاد الرجل إلى جلسته الأولى، احتضنت يداه ساقيه ومال برأسه على ركبتيه، وملت برأسي على عجلة القيادة بعد أن ملأت عيني بصورة الشهيد الذي يجب أن أعرفه، ولم أنهض إلا بصوت سيارة كنت قد سددت مسارها إلى عزبة "الشهيد".

ببطء تحركت، تاركا عقلي وأحاسيسي أسفل الصورة.. بجوار والد الشهيد، ثم توقفت استجابة لإشارة شاب يرغب في الوصول إلى الطريق الرئيسي، جلس بجواري، سألته: إنت من عزبة الشهيد "محمد"؟ أجاب: نعم، فقلت كان الله في عون والده، فقال الشاب: والد الشهيد يأتي كل يوم ليجلس في نفس المكان بعد أن ينفض الأتربة عن الصورة، لكنه فخور بابنه، ونحن أيضا. 

"محمد" كان شابا محبوبا، يساعد الجميع، وكان متفوقا في دراسته، كان يكبرني بأربعة أعوام، لكني كنت أحب الجلوس معه والاستماع إليه، كان يشرح لي الطريقة المثلى في المذاكرة لأكون متفوقا، وعندما التحق بالخدمة العسكرية كان يشرح لي معنى الوطنية، "محمد" مثلي الأعلى في كل شيء، أشكرك على التوصيلة، ممكن أنزل؟

نزل الشاب وتركني مع صورة "محمد"، ومشهد الأب الذي يحرص على مجالسة ابنه الشهيد يوميا، وحديثه معي الذي ما زال صداه يتردد في جنبات سيارتي. وبعد إلحاح منه.. استجبت لزميلي ورددت على الهاتف، وإذ به يسألني.. هل استمعت لما قاله "عمرو أديب" ردا على "علاء مبارك"؟! وهل شاهدت الفيديو الأخير للمخرج الشهير؟! أجبته: لا.. بل استمعت إلى كلام والد "الشهيد"، وشاهدت صورة "محمد".
المجد للشهداء.. لا لتجار الأوطان.
basher_hassan@hotmail.com
الجريدة الرسمية