رئيس التحرير
عصام كامل

محنة الحديث النبوي (5)


لوضعِ الحديث والكذبِ على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أسبابٌ كثيرة، قال العلماءُ، إنَّ أهمها ما وضعه الزنادقة الذين ارتدوا لباسَ الإسلام غشًّا ونفاقًا، وقصدُهم بذلك إفسادُ الدين، وإيقاع الخلاف والافتراقُ بين المسلمين..


قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقةُ أربعة آلاف حديث، وهذا بحسب ما وصل إليه علمُه، وإلا فقد نقلَ المحدثون أن زنديقًا واحدًا وضع هذا المقدار، قالوا: لمَّا أُخِذَ ابن أبي العوجاء ليُضربَ عنقُه، قال: "وضعتُ فيكم أربعة آلاف حديث، أُحَرِّمُ فيها الحلالَ، وأُحِلُّ الحرامَ".

ومن أخطر أسباب الوضع الرغبةُ في نصرة مذهب معين، في أصول الدين وفروعه.. ذلك أن المسلمين لما تفرقوا شيعًا ومذاهب جعل كلُّ فريقٍ يستفرغُ ما في وسعه لإثبات مذهبه، لا سيما بعدَ ما فتحَ اللهُ عليهم بابَ المجادلةِ والمناظرةِ في المذاهبِ، بهدفِ إفحام مَنْ يناظرهم والانتصارِ عليه، لدرجة أنهم جعلوا "الخلاف" علمًا صَنَّفوا فيه المصنفاتِ، رغم أن دينَ الإسلامِ يكرهُ الخلافَ ويحذر منه.

تابَ رجلٌ من المبتدعةِ فأخذَ يقولُ: انظروا ممن تأخذون هذا الحديث، فإنا كنا إذا هويْنا أمرًا صيَّرناه حديثًا.. وعلى سبيلِ المثالِ، هناك حديثٌ يقولُ: "يكونُ في أمتي رجلٌ يقالُ له محمد بن إدريس أضرُّ على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجلٌ يُقالُ له أبو حنيفة هو سراجُ أُمتي". قالوا: وفي إسناده وضَّاعان، أحدهما مأمون بن أحمد السلمي، والآخر أحمد بن عبدالله الخونباري. ورواه الخطيبُ عن أبي هريرةَ مرفوعًا!

وإزاء ذلك وضعت الشافعيةُ حديثًأ ليفضلوا إمامَهم على كل إمامٍ، ونَصُّه: "قالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم: أكرِموا قُريْشًا فإنَّ عالمَها يملأُ طباقَ الأرضِ عِلمًا"! أمَّا أنصارُ مالك فلم يلبثوا أنْ وضعوا في إمامِهم هذا الحديثَ: "يخرج الناسُ من المشرقِ إلى المغربِ فلا يجدون أعلمَ من عالمِ أهلِ المدينة"!

وثالثُ أسبابِ الوضعِ؛ هو الغفلةُ عن الحفظِ اشتغالًا عنه بالزهد والانقطاع للعبادة، فيجب ألا يُعتمد على الأحاديثِ التي حُشيتْ بها كتبُ الرقائق والوعظ من غير بيانِ تخريجها ودرجتها، ولا يختصُّ هذا الحكمُ بالكتبِ التي لا يُعرفُ لمؤلفها قدمٌ في العلمِ، ككتاب "نزهة المجالس"، المملوءِ بالأكاذيب في الحديث وغيره، بل إنَّ كتبَ أئمةِ العلماءِ كالإحياءِ لا تخلو من الأحاديثِ الموضوعة!

ورابع الأسباب؛ الرغبةُ في التقرب للملوك والسلاطين والأمراء، كما نصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ من الحُفَّاظ. وكما كذبَ علماءُ السوء على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لأجلِ السلاطين، كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأجلهم. ومن الأحاديثِ المرفوعةِ في هذا البابِ ما اشتمل على مدح السلاطين وتعظيم شأنهم.

وثمَّ سببٌ خطير؛ وهو الخطأ والسهو، وقد وقع هذا لقومٍ، ومنهم من ظهر له الصوابُ، ولم يرجعْ إليه أنفةً واستنكافًا أن ينسب إليهم الغلطُ، ولم يُعرف ضعفُ دين هؤلاء وعدم إخلاصهم في رواية الأحاديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع.

ومن الأسباب التي لا يزال خطرها قائمًا؛ التحديث عن الحفظ ممن كانت له كتب يعتمد عليها فلم يتيقن الحفظَ فضاعت الكتب فوقع الغلط. وكذا اختلاط العقل في أواخر العمر، وقد حدث هذا لجماعة من الثقاتِ فكانوا معذورين، وأيضًا محاولة إرضاء الناس واستمالتهم لحضور مجالسهم الوعظية، وتوسيع دائرة حلقاتهم، ولعلَّ ابن الجوزي ما تصدى لتأليف كتابه في "الموضوعات" إلا بعد ما مارس الوعظ وأدرك ما أفسده الوعاظُ في الدين، حتى قال عن نفسه: "إن الأحاديث كانت ترد عليه في مجلس وعظه، فيردها فيحقد عليه سائر القُصَّاص".

وعن القصاص الذين ابتُلي بهم الإسلامُ فحدث ولا حرج.. أخرجَ السلفيُّ من طريق الفضل بن زياد، قال: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: أكذبُ الناس السُّؤَّال (الشحاذون) والقصاص (الوعاظ).. وكان المتسولون يقفون في الأسواق والمساجد يضعون الأحاديث على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأسانيد صحيحة حفظوها فيذكرون ما ألفوه بتلك الأسانيد (تفسير القرطبي ص 69 ج 1).

وعن أبي قلابة، قال: ما أمات العلم إلا القصاص. وعن أبي عبدالرحمن أنه قال: اتقوا القصاص. وقد ابتدأت فتنة القصاص، على إثر النزاع على الحكم بعد مقتل عثمان بن عفان، رضي الله عنه.

ومن أسباب وضع الأحاديث؛ السعي لترهيب الناس وترغيبهم؛ بهدف هدايتهم.. وربما سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة هو قول العلماء إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال، وما في معناها مما لا يتعلق بالأحكام والحقوق، وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام!

وهناك زنادقة وضعوا بهدف إفساد شريعة الإسلام، وإيقاع الشك والتلاعب بالدين، وكان بعضهم يتغفل الشيخ فيدس في كتابه ما ليس من حديثه، ومن أشهر الكذابين ووضاع الأحاديث: ابن أبي يحيى في المدينة، والواقدي في بغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد بن سعيد بالشام.

كان الرشيد يعجبه الحمام واللهو به، فأهدى إليه حمام وعنده أبو البختري القاضي فقال: روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: لا سَبْقَ إلا في خُفٍّ أو حافرٍ أو جناحٍ.. (وزاد جناح، وهي لفظة وضعها من أجل الرشيد)، فأعطاه جائزة قيِّمة. ولما خرج قال الرشيدُ: والله لقد علمتُ أنه كذَّابٌ، وأمر بذبح الحَمام، فقيل له: وما ذنبُ الحمامِ؟ فقال: من أجله كُذِبَ على رسول الله!

وبالغ الوضَّاعون في مناصرة الحكام، فمثلا حاولوا رفع الشام، مقر الحكم أيام الأمويين، إلى مرتبة رفيعة، ربما فوق المدينة المنورة ومكة المكرمة!

ورد أنصارُ أبي بكر، رضي الله عنه، الصاعَ صاعين، فأخرجَ ابنُ عساكر عن أبي هريرة: تباشرت الملائكة يوم بدرٍ، فقالوا: أما ترون الصديق مع رسول الله في العريش.

أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة، قال رسولُ الله: عُرِجَ بي إلى السماء، فما مررتُ بسماءٍ إلا وجدتُ فيها اسمي (محمد رسول الله وأبو بكر خلفي).

ومؤيدو عثمان.. أخرجَ أبو يعلى عن ابن عمر أن النبيَّ قالَ: إنَّ الملائكةَ تستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله.

وعائشة.. في حديث أن رسول الله قال: فَضْلُ عائشة على النساءِ كفضلِ الثريدِ على سائرِ الطعامِ.. و"خذوا شطرَ دينكم عن هذه الحميراء".. وفي حديثٍ أن صورتها جاءتْ للنبي في سرقةٍ من حرير مع جبريل، وقال له: "هذه زوجتُك في الدنيا والآخرة"!

ومعاوية.. أخرج الترمذيُّ أن النبيَّ قال لمعاوية: اللهمَّ اجعلْه هاديًا مهديًّا. و"اللهم علِّمه الكتابَ والحسابَ وقِهِ العذابَ!

ورغم كثرة ما جاء في فضائل معاوية من أحاديث لا أصلَ لها، فإنَّ إسحاق بن راهويه، شيخُ البخاريّ، قال: لم يصحّ في فضائل معاوية شيءٌ.
الجريدة الرسمية